إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 16 أبريل 2014

البولسية والغنوصية

هناك عنصر غنوصى يظهر منذ البدايه فى فكر بولس من خلال اعلان الله فى المسيح , و هى الثمره الناضجه للفكر الغنوصى أو اللاهوت التأملى . صحيح أن بولس شعر أنه دعى ليكرز بالإنجيل ليس بحكمة الكلمات , بل بالروح و القوه , بحيث أن كنائسه لا تؤسس على حكمة الرجال , بل على قوة الله . ( كورنثوس الأولى 1 - 17 و 21 , 2 - 4 و 5 ) . و لكن على الرغم أن انجيله كان عقبة أمام اليهود و جهاله عند الأمميين , الا أنه على الرغم من ذلك يحتوى على حكمة الله , و نعمة الله التى كانت مخفيه , و لكنها أظهرت الآن بواسطة الروح الذى يفحص أعماق الله , و الذى أخذناه من الله لنعرف الاشياء المعطاه لنا من الله ( كورنثوس الأولى 1 - 23 و 24 , 2 - 6 الى 12 ) .




و على الرغم أن الانسان الذى بحسب الطبيعه لا يستطيع أن يفهم الأمور الروحيه , الا أن المؤمن الذى أضاء روح الله عقله يستطيع أن يفهم غرض الله فى الخلاصالذى عرف من خلال موت المسيح و قيامته , و يستطيع أن يوضحها للناس , و يوضح علاقتها بوحى الله طوال التاريخ , و أنها ترتكز على ما قاله الله فى العهد القديم .
لقد كان هذا كما رأينا سابقا هو ما ينادى به اللاهوت البولسى , مع الشرح المنطقى ل " كلمة الصليب " . لقد كانت معرفة
gnosis سر ابن الله المصلوب كما أعلنه الله فى عقل بولس , و من خلال هذا الضوء الذى أعلن له من وجه المسيح , هو ما أوضح له أهمية الوحى الإلهى فى العهد القديم , و جعل " برقع موسى " الذى أخفى العهد القديم عن اليهود , بحيث لم يستطيعوا أن يستوعبوا الروح الذى يقبع تحت الحرف , ينكشف لبولس من خلال المسيح .( كورنثوس الثانيه 3 - 14 ) , و أعلن له الروح الذى يقبع تحت الحرف , مما مكنه أن يرى فى الناموس و الأنبياء مرحلة اعداديه و وعودا تحققت فىالمسيحيه .
إن موضوع هذا التفسير " الروحى " pneumatic للعهد القديم , الذى يعتبر الحرف مجرد أداه لمعنى روحى أعمق , تحدد عند بولس من خلال خبرته الدينيه الشخصيه , و لكنه كان مرتبطا أيضا بنوع اللاهوت اليهودى الذى كان ينمو و بخاصه فى الأسكندريه . على الرغم من احترام المدرسه السكندريه الشديد للحرف الذى نقل التقليد , الا أنه قد أخذ مسارا فكريا جديدا كان بعيدا كل البعد عن اليهوديه الايجابيه و قريبا كل القرب من المثاليه idealism فى الفلسفه اليونانيه .
هذه المدرسه الفكريه لم يكن بقدرتها أن تخرج خارج أسوار اليهوديه , لتؤسس دينا عالميا موحدا , فقد افتقدت القوه المطلوبه لمثل هذه الخطوه , و لكن عندما انضمت الى الإنجيل البولسى عن يسوع المسيح صارت النزعه السكندريه ذات قوة فى نشر العالميه المسيحيه , لأن فكرها كان أكثر وضوحا و مفهوما عند عقول اليهود و الأمميين أكثر من المنطق الخاص ببولس .
ان الدمج ما بين الغنوصيه البولسيه و السكندريه و التى صار لها أهميه فى كل العصور , تقابلنا أول مره فى الرساله الى العبرانيين , التى كتبها أحد أتباع بولس أثناء فترة حكم دوميتيان , و الذى تعلم فى المدرسه السكندريه , مستهدفا أن يثبت علو قدم المسيحيه على النزعه اليهوديه للمسيحيين المتهودين ( ربما فى روما و الكنائس الايطاليه الأخرى ) لأولئك الذين اهتز ايمانهم . لم يكن الهدف من هذا مهاجمة اليهوديه العنيفه الغيوره على الناموس و التى ربما ظلت هى السائده فى فلسطين , و لكن الرساله موجهه لتشجيع أقليه مضطهده .
إن المشاعر اليهوديه تجاه هذه الأقليه قد جرحها التأثير الكبير للمسيحيه الأمميه , فبدأت هذه الأقليه تتعرض للتهديد و الاضطهاد من أجل اسم المسيح , و بالتالى بدأ ايمانها المسسيحى يتزعزع , و تعود للطقوس الدينيه الخاصه بالمجمع اليهودى ( عبرانيين 10 - 23 الى 35 , و خصوصا العدد 25 ) . لقد كان من الضرورى أن يوضح لهؤلاء الناس أن اليهوديه تقدم كل شىء فى قالب تنظيمات دينيه , و لكن المسيحيه تقدم وسائل النعمه بطريقة أفضل , بل و فيها فقط الطريقه الأكمل التى تشبع القلب .
و بالتالى فهذا الكتاب لا يصورالعلاقه بين اليهوديه و المسيحيه على أنه الناموس ضد الإنجيل كما كان ينادى بولس , بل غير الكامل و المؤقت مقارنة بالكامل و الأبدى , و بالتالى فكلا من الناموس و الإنجيل يعتبران وسائل خلاصيه , و مركز ذلك يقبع فى خدمة الكهنوت الذى ينفذ فيه عهد الله مع شعبه .
كل شىء يوجد فى اليهوديه يعاود ظهوره فى المسيحيه , الكهنوت و المذبح و الذبائح و العهد و شعب الله المقدس و العهود و النعمه و راحة السبت , و لكن المسيحيه تمتلك هذه الاشياء فى صورة أسمى من اليهوديه , فهناك كهنوت خاطىء متغير , و لكن هنا الكهنوت الدائم غير الخاطى , هناك ذبائح تكفى للتطهير الخارجى فقط , و هنا الذبيحه الوحيده فى حياة المسيح المقدسه التى أدت الى خلاص و تطهير دائم , و هناك دخول الكاهن الأكبر مرة فى العام الى المذبح الأرضى , أما هنا فالدخول مرة واحدة الى قدس الأقداس السماوى المفتوح للجميع بواسطة المسيح الكاهن الأكبر المتوج فى السماء . ان المفهوم الأساسى للمسيحيه الذى تعرضه الرساله للعبرانيين تقبع فى هذه الفكرة عن المذبح السماوى بكهنوته الإلهى .
و لكن فى هذه الفكره يجرى دمج لمفاهيم متنوعه , ففى الأساس من أسفل يوجد مفهوم العباده فى الهيكل اليهودى , و الذى يبدو أن الكاتب لم يكن يعرف عنها من خلال ممارسه شخصيه , بل فقط من خلال دارسته للأسفار الخمسه التوراتيه , و بالتالى عندما يتحدث عن هذه العباده الأرضيه على أنها ظل لعبادة سماويه أصليه ( عبرانيين 10 -1 ) , فمن الواضح أن أمام ذهنه المفهوم السكندرى عن العالم العلوى أو العالم المثالى ( κοσμος νοητος ) , الذى يعتبر العالم المنظور مجرد صوره له لا تتسم بالكمال .
و هذا " العالم العلوى " من المثاليه المسيحيه يرتبط مرة أخرى فى فكره ب " العالم المستقبلى " فى الاسخاتولوجى الخاص بالمسيحيه المتهوده , بالصوره التى يصف بها سفر الرؤيا ملكوت الله عند اتمام كل الأشياء بأنه نزول أورشليم السماويه , و لكن ما يميز المسيحيه السكندريه هو تعريفها للعالم السامق للفكر التأملى , أو الحدس الرؤوى , حيث نجد التناقض , بأن المسيحيه ليست شيئا ينتمى الى الحاضر بل فقط الى العالم المستقبلى .
و لكن الحل لهذا التناقض على الرغم من ذلك يقبع فى حقيقة بسيطه , هى أن العالم المستقبلى يفهم بطريقة مشابهة للعالم العلوى أو السماء , و بالتالى يبدو على هذا النحو أنه واقع حاضر , فيه المسيحيون مع المسيح الكاهن الأكبر السماوى , و يمكنهم أن يتذوقوا قوة هذا العالم , بل و نالوا بالفعل عطاياه الأولى ( عبرانيين 6 - 4 و 5 ) .
ان الهوه التى تفصل بين عالم الحس و عالم الأفكار و التى حاولت ردمها فلسفات أفلاطون و فيلو السكندري دون جدوى , و التى نقلتها اليهوديه الى المستقبل , قد ردمت بالفعل فى الفكر المسيحى السكندرى , عبر الوساطه الشخصيه ليسوع المسيح الذى أتى من السماء و رفع اليها , و عبر دوره الوساطى ككاهن أكبر لكنيسة العهد الجديد الذى وصل ما بينها و بين الملكوت الدائم , و الذى معه الوعد بإتمام كل رغبه فى المستقبل .
إن تأكيد المسيحيه على الخلاص فى فكر كاتب الرساله الى العبرانيين يعتمد كلية - مثله فى ذلك مثل بولس - على يسوع المسيح و موته الكفارى و ارتفاعه الى السماء , و ان كان مصدر هذا الفكر عند كاتب رسالة العبرانيين يختلف عن مصدره عند بولس . ان الكريستولوجى الموجود فى الرساله الى العبرانيين ليس أقل عزارة من الكريستولوجى الخاص ببولس , بل بالأحرى أكثر غزارة منه , بما أنه وفق نظرته المثاليه السامقه عن شخص المسيح , ينسب أيضا للجانب التاريخى من حياة يسوع الأهميه اللائقه به , و بالتالى يحاول مثلما حاول كاتب انجيل يوحنا أن يدمج ما بين النظرتين الى المسيح , و التى انقسم بسببها بولس و الكنيسه الأولى .
الا أنه ينبغى علينا أن نعترف أن هذه المصالحه ليست شامله , فمن ناحية ما , يصور يسوع على أنه كائن الهى يرتفع عن مقام البشر و الملائكه , و أنه سطوع لمجد الله , الذى به صنع العالم , و الحامل لكل شىء بكلمة قدرته , و هى الصفات التى ترتكز على العقيده السكندريه عن الحكمه و اللوجوس ( عبرانيين 1 - 2 و 3 , قارن مع سفر حكمة سليمان 7 - 22 ) .
و لكن ابن الله السماوى هذا لم يأخذ على نفسه مجرد اللحم و الدم لأبناء الله , بل اشترك أيضا فى ضعفاتهم و تجاربهم أثناء حياته على الأرض , و لكن بدون خطيه , و تعلم الطاعه من خلال المعاناه , و كمكافأة له توج بالمجد و الشرف , و صار كاهنا أعلى رحيما , يستطيع على الرغم مما عاناه من التجارب أن يغيث المجرب . ( عبرانيين 2 - 14 و 18 و 19 , 5 - 7 ) .
و أيضا فبحسب الرساله الى العبرانيين , فإن موت المسيح هو مركز العمل الخلاصى , و لكن على الرغم من ذلك فإن الموت ليس كذلك , و مثلما وجدنا فى فكر بولس , فإن تنفيذ لعنة الناموس على النائب عن البشريه و معاناته كمثال للطاعه كذبيحه كفاريه مطهره أكثر فعاليه من ذبائح العهد القديم , و يزيل الاحساس بالذنب و بالتالى يبطل الذبائح القديمه ( عبرانيين 2 - 9 و 10 , 5 - 9 , 9 - 14 , 10 - 14 ) .
و بالتالى فالتأكيد الذى نجده فى هذه الرساله ليس على مجرد التحمل السلبى للموت passive endurance of death لتكفير الغضب الإلهى , بل على تقديم الذبيحه المقبوله للحياه المقدسه , بناء على المشاعر و الدوافع الأخلاقيه لمقدمها , و هذه الذبيحه الروحيه الحقيقيه تبطل ذبائح العهد القديم الماديه , و تفتتح عهدا من العبادة لله عن طريق الروح و الحقيقه .
و بالتالى فإن مؤلف الرساله للعبرانيين يصل الى نفس النقطه التى وصل لها بولس , و لكنه لم يصل لها من خلال النظريه الفريسيه عن التكفير , بل من خلال فكرة الرمزيه فى طقوس العهد القديم , و من خلال طقس ذبائحى أخلاقى , و هى وجهة نظر جديده نقابلها أيضا فى انجيل يوحنا , و التى كانت بلا شك أكثر قبولا فى الأفهام بشكل عام , أكثر من نظرية التكفير النصف - يهوديه و النصف - مستيكيه التى نادى بها بولس . إن تأثير موت و تخليص المسيح بحسب الرساله للعبرانيين هو انفتاح العالم السماوى أمام علاقة كاملة مع الله لأصحاب الأرواح المؤمنه الصادقه مقلدين فى ذلك مؤسس ايمانهم .
فى هذه الرساله , لا يلتفت الايمان كثيرا الى المسيح بقدر ما يلتفت الى الهدف منه ( عبرانيين 2 - 12 , 13 - 13 ) , و لا يتحدث عن اتحاد مستيكى مع المسيح المصلوب و المقام , و لكنه يهتم بالحاله الدينيه و الأخلاقيه للعقل , التى بحسب مثال المسيح لها أمل فى العالم غير المنظور , و تظهر صدقيتها من خلال طاعتها فى التحمل و المعاناه . و بخصوص هذا العقل المؤمن , فإن الإيمان تصرف أخلاقى ممتاز , و الذى بحسب هذه الرساله لا يناله المؤمن كعطيه من الله , و لكن الله يقبله كفضيله أخلاقيه موجوده بالفعل ( عبرانيين 11 - 4 و 5 و 33 و 39 ) .
ان الفكر البولسى الذى يرى تعارضا بين الايمان و الأعمال أو الايمان و الناموس , لا يوجد هنا بسبب الفكرة الأبسط عن القلب المؤمن الذى يسر به الله , و اذا اعتبرنا هذا كما هو مؤكد فى بعض النواحى تقاربا مع نمط التفكير المسيحى المتهود , إلا أن الرساله الى العبرانيين على الرغم من ذلك ترفض النظاميه اليهوديه بدرجة لا تقل عن موقف بولس بنفس هذا الخصوص . ( عبرانيين 7 - 12 , 10 - 9 , 3 - 3 الى 6 و 12 الى 15 ) . صحيح أنه لا يبرر التخلى عن اليهوديه عن طريق الارتكاز على التناقضات الجريئه التى نادى بها فكر بولس عن الناموس , و لكن استخدام هذا الكاتب للأسلوب المجازى فى حديثه عن طقوس العهد القديم ليس سوى طريقة أخرى لعرض الفكر البولسى الأصيل , بأن المسيحيه هى الدين الحقيقى الوحيد , و أن اليهوديه مجرد مرحله سابقه غير كامله فى تعبيرها عن الحقيقه , و ينبغى أن تفسح المجال للمسيحيه .
من خلال هذه الطريقه التى عرض بها فكرته , من حيث الحقيقه النسبيه فى اليهوديه , و الاتصال التاريخى الايجابى للمسيحيه مع العهد القديم , فإن فكرته هذه لاقت قبولا أكثر من منطق بولس الجدلى السلبى , و بالتالى فإن اللاهوت البولسى السكندرى الموجود فى الرساله الى العبرانيين جرى تبنيه ليعمل كوسط محايد فى رأب الخلافات التى نشأت فى الكنيسه الأولى .
حدثت خطوة أخرى الى الأمام فى الرساله المعروفه باسم رسالة برنابا , و التى خرجت من نفس المنطقه , و التى فعلت نفس الشىء من استخدام الأسلوب المجازى فى تفسير العهد القديم لتظهر أن المسيحيه هى الاتمام الحقيقى لليهوديه , و لكنه يفعل هذا عن طريق حرمان الصوره القوميه و النظاميه لليهوديه حتى من أهميتها النسبيه , بل و يدينها بوصفها افساد شيطانى للحقيقه ( رسالة برنابا 2 و 3 و 9 و 10 و 15 و 16 ) . بحسب وجهة نظر كاتب رسالة برنابا , فإن الله لم يأمر أبدا بختان الجسد , بل فقط بختان القلب و الأذن التى تحدث عنها الأنبياء السابقون , و لكن اليهود الذين خدعهم ملاك شرير أساءوا فهم الإراده الإلهيه و مارسوا الختان الجسدى , و الذى لا يمكن أن يكون على أى حال هو علامة العهد , لأن الختان كان يمارس أيضا بواسطة السوريين و العرب و المصريين .
و أيضا الأوامر المتعلقه بالأطعمه , فقد قصد بها فى الأصل أخلاق معينه , فمثلا المنع عن أكل الخنزير هو مجرد تحذير عن الحياه المترفه , و السماح بالمجترات مجرد اشاره مجازيه الى حياة الايمان و التأمل فى كلمة الله , و لكن العقل الجسدانى لدى اليهود هو فقط الذى تسبب فى فهم هذه الأمور بصورة حرفيه . و كذلك حفظ يوم السبت مجرد اشاره الى بدء عهد جديد فى المسيح , و بالتالى يجد تتميمه فى يوم الأحد الخاص بالمسيح بصفته اليوم الذى قام فيه المسيح . و يبدو برنابا ممتعضا من احترام اليهود للهيكل كأن هذا طقس وثنى , و هو العمل الذى أدانه الله عن طريق تدميره , و أعلن أن الهيكل الحقيقى هو قلوب القديسين أو المؤمنين , و لقد أعلن الله منذ زمن بعيد عن طريق الأنبياء أنه لا يرغب فى ذبائح أخرى بل فى تقدمة القلب , و أن ما يهمه هو فعل الخير و ترك الشر ( انظر سفر اشعياء ) .
بسبب سوء تفسير اليهود لكل هذه الأمور , و محافظتهم عليها بطريقة حسيه , بدلا من فهمهما بالطريقة الأخلاقيه التى قصدها أصلا الله و موسى و الأنبياء , فإن برنابا يرى أن هذا السلوك يدل على أن شعب اسرائيل ليس شعب الله كما يدعون , و أكد على هذا من خلال استعراض لكل تاريخ شعب اسرائيل , بدءا من عبادتهم الوثنيه فى سيناء حتى صلبهم ليسوع الذى وصل به شعب اسرائيل الى أقصى حد ممكن فى ارتكاب الخطايا .
مثل هذه النزعه المضاده لليهوديه التى رأيناها منذ قليل نبتت دون شك فى التربه البولسيه , و لكنها نمت أكثر بكثير من مشاعر بولس الذى رفض فى ( روميه 9 ) المبالغه فى إدانة شعب اسرائيل , و لكن على الرغم من ذلك فقد كان من الواضح أنها على بعد خطوة قصيره من هذا الموقف البولسى المتطرف المضاد لليهوديه ( يقصد الكاتب موقف برنابا ) , كما كانت هى نفس المسافه التى تبعد هذا الأخير عن الثنائيه الغنوصيه لمرقيون , الذى قطع فى النهايه كل صله تاريخيه بين المسيحيه و اليهوديه .
اذا لم تكن بعد هذه الغنوصيه التى تريد رسالة برنابا اضافتها الى الإيمان هى العنوصيه الصارمه فى معناها الهرطوقى لأنها لم تشغل نفسها حتى الآن بالعالم السامى , إلا أن تعاملها المجازى مع التاريخ الدينى يجعلها تقدم مرحلة انتقاليه بين المسيحيه السكندريه و الغنوصيه الهرطوقيه . و لكن قبل أن نتتبع مسار تطور الغنوصيه البولسيه المتطرفه , لا بد أن نلقى نظرة على صورة منها اعترفت بها الكنيسه , و التى نشأت فى اطار البولسيه الأرثوذكسيه , تحت تأثير النزعه السكندريه فى بداية القرن الثانى , و احتفظت لنا بها رسالتا كولوسى و أفسس .
إن الشكل الذى توجد عليه رسالة كولوسى , التى تعتبر أحد منتجات المدرسه البولسيه , يهدف الى مقاومة المعلمين الكذبه , الذين على الرغم من كونهم متهودين , الا أنهم ينتمون الى فئة مغايرة تماما عن أولئك الذين تمت مهاجمتهم فى الرسائل الأقدم لبولس , و يبدو أنهم مسيحيون أسينيون أرادوا أن يدخلوا الى المسيحيه تأملاتهم عن العالم الروحى العلوى , و الزهد الروحانى المرتبط بذلك , و بسبب اهتمامهم بهذه القداسه و هذه الحقيقه العلويه فقدوا الأساس التاريخى للإيمان بالمسيح و الحياه الكنسيه الأخلاقيه الصحيه .
ان البولسية الكنسيه المعارضه لهذه الغنوصيه المزيفه التى تذكرنا ب " كرينثوس " Cerinthus و العنوصيه الحقيقيه , عارضت أفكارها العجيبه عن الملائكه و الكريستولوجى المتأمل الخاص بها , و زهدها الأبيونى و مبادئها الأخلاقيه المسيحيه المثاليه . إن الهراطقه فى كولوسى قد وضعوا المسيح على قدم المساواه مع الملائكه , بل و حتى جعلوه أقل منها , و لكن البولسيه الأرثوذكسيه تنادى بعلو قدر المسيح فوق كل القوى الروحيه , بلغة لا تذكرنا فقط بالكريستولوجى البولسى الأقدم , بل و أيضا بعقيدة اللوغوس عند فيلو .
ان المسيح بحسب مؤلف رسالة كولوسى , مركز العالم , فكل الأشياء لم تخلق فقط عن طريقه , بل و أيضا فيه , و فيه يقوم الكل , و فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا , و بالتالى فتجسد المسيح لم يعد يفهم ( كما كان فى الكريستولوجى عند بولس ) على أنه تخلى عن المجد السماوى , بل بكل بساطه أنه اخفاء لهذا المجد فى جسد فان . و الأمر ذو الصله بخصوص هذا الوضع الكونى للمسيح هو أهمية عمله الخلاصى , فالتأثير الكفارى لموت المسيح لم يعد محدودا بمصالحة البشر مع الله , بل يشمل كل العالم ذو الوجودات الروحانيه , و القوى الملائكيه للعالم غير المنظور يتضمنها أيضا هذا السلام الذى صنعه المسيح . ان المسيح ليس فقط مركز خلق العالم , بل أيضا الوسيط الكفارى للسلام فى كل العالم الجسدانى و السماوى ( كولوسى 1 - 20 ) . و يجرى تصويره بنفس الكيفيه على أنه المنتصر على القوى الروحيه الشريره , و ضد الممسكين بالصك ( الناموس ) .
ان الفكره البولسيه أن المسيح افتدانا من لعنة الناموس بأن حملها بنفسه , تكتسب اذن فى فكر هذا الكاتب البولسى , اشاره الى السيطره على الامبراطورية الشيطانيه , التى دمرت سيطرتها على العالم بواسطة موت المسيح , و هو المفهوم الذى يذكرنا بالفكره الأسطوريه التى تلت ذلك عن الصراع بين المسيح و الشيطان .
لقد صالح المسيح العالم فى شخص نفسه , فلم يعد لزاما على المسيحيين أن يظلوا خاضعين عن طريق عبادة الملائكه و عن طريق الزهد العنيف المتشكك , بل لا بد من احداث ملائمة أكثر بين كنوز الحكمه و المعرفه المخفيه فى المسيح , و لا بد من زيادة المعرفه بالله و السير فى طريقه . صحيح أن هذا المؤلف البولسى الأرثوذكسى يؤكد على أهمية المعرفه فى المسيحيه , و لكنه يميز بينها و بين العنوصيه المزيفه , و بالتالى يطلب الالتزام بالمسيح بوصفه رأس الكنيسه المسيحيه .
و بعد ذلك أخذ المنعطف العملى الذى مرت به العنوصيه البولسيه خطوة متقدمة أكثر فى الرساله الى أهل أفسس , التى تتوافق كلية مع انجيل يوحنا فى الميول اللاهوتيه . لقد لوحظ طويلا التقارب ما بين هذه الرساله و الرساله الى كولوسى , و لكن الاختلاف بينهما ليس تافها , سواء فى الموضوع أو فى النبره , و هو الأمر الذى جرى تجاهله فى الغالب .
لا نجد فى رسالة أفسس أى أثر للهرطقات التى حاربتها رسالة كولوسى , فصراعها ليس مع المسيحيين المتهودين الأبيونيين , بل مع المسيحيين الأمميين البولسيين المتطرفين , و ليس مع الزهد المتشكك بل مع التحرريه الطائشه , و ليست مع الخصوصيه اليهوديه بل مع الصلف الأممى المضاد لليهوديه و الذى يفتقد للمحبه الأخويه . لقد كان الهدف من الرساله الى أفسس هو رأب الصدع بين الحزبين و الذى ظل يقسم الكنيسة المسيحيه , و هو الأمر الذى يرى الكاتب أنه الهدف من الوحى الإنجيلى , و هو الغرض من مهمة و موت المسيح .
ان التعليم التأملى فى رسالة كولوسى بخصوص مصالحة العالم الأرضى و العالم السماوى عن طريق موت المسيح , يكتسب فى رسالة أفسس التطبيق الأخلاقى , بأن الأمميين و اليهود قد وحدهم موت المسيح فى جسد واحد هو الكنيسه , عبر ازالة الحاجز الذى كان يفصل بينهما و هو الناموس ( أفسس 2 - 14 ) , و الهدف الضرورى من موت المسيح بحسب رسالة أفسس لم يعد ( كما فى كتابات بولس ) هو التخليص من لعنة الناموس , بل تأسيس الكنيسه العالميه عن طريق اذابة كل الخلافات .
ان النزعه التأمليه فى رسالة كولوسى بأن " كل ملء اللاهوت حل جسديا " فى المسيح , تأتى فى رسالة أفسس لتقول أن الكنيسه بوصفها جسد المسيح هى " ملؤه " , أى الظهورالكامل لطبيعته الإلهيه فى شكل انسانى ( أفسس 1 - 23 , 4 - 13 ) , و التأكيد الشديد الذى تضعه هذه الرساله على دور الروح القدسكمصدر الوحى للكنيسه يرتبط بهذه الفكره , فالروح لم يكشف فقط عن الروح المسيحيه من خلال الرسل , بل لا يزال يظهرها من خلال الأنبياء المسيحيين ( يقصد أتباع رسل المسيح , و ليس أنبياء العهد القديم ) ( أفسس 1- 17 , 3 - 5 , 4 - 11 ) .
و بالتالى فالوحى المسيحى ليس أمرا وقع فى الماضى , بل هى عملية مستمرة فى الكنيسه , و هى الفكره التى تجعل رسالة أفسس تتصل اتصالا مباشرا بإنجيل يوحنا و بالمونتانيه ( أفسس 1 - 17 , 4 - 13 , قارن مع يوحنا 16 - 12 , انظر ترتليان De Virgin . veland . 1 ) . و عندما يصف فى النهايه دعوة الأمميين الى ملكوت المسيح ( أفسس 3 - 5 ) كموضوع لوحى تلقاه " الرسل المقدسون و الأنبياء " , فإننا نجد فى هذا اشارة واضحة للمشاعر السلميه التى تحلت بها البولسيه المتأخره , و التى نست أو حاولت أن تنسى الاختلافات التى كانت موجودة فى العصر الرسولى . و بالتالى فالرساله الى أفسس تحفة فنية مهمه تمثل الرغبه فى الإتحاد التى تميزت بها البولسيه فى القرن الثانى , و التى نعلم من خلالها أن إحداث مصالحه بين الأحزاب المتنوعه كان حاجة ملحة شعر بها البولسيون .
إن آخر عمل يعبر عن نزاع المائة عام بين المسيحيين الأممين و المسيحيين المتهودين حدث فى كنيسة روما فى منتصف القرن الثانى , و لكنه يختلف جوهريا عن الأعمال السابقه , لأنه لم يكن ثمة أحزاب فى الكنيسه تدور بينها رحى الحرب , بل متطرفين هرطوقيين من اليمين و اليسار , بينما حافظت الكنيسه على موقفها المحايد و معارضتها لهم , و زادت من قوة اتحادها إبان هذا الصراع .
ان النظم العنوصيه الأقدم و التى تخلط بين الفلسفه الهيلينيه و الأساطير الشرقيه , لم تستطع أن تشق لها طريقا فى روما , بينما على الجانب الآخر فإن مرقيون الغنوصى الموهوب وجد التربه المناسبه للمعارضه العنيفه ضد اليهوديه و للغلو فى البولسيه , فعندما جاء الى روما أثناء حكم " أنطونينوس بيوس " و أثناء أسقفية " بيوس " ( 142 ميلاديه ) , رغب فى البدايه أن يلتصق بالكنيسه الجامعه , و لكن سرعان ما ظهرت ميوله الهرطوقيه من اسئلته التمحكيه التى كان يلقيها على المعلمين .
ان الغنوصى السورى " جيردون " الذى كان يعلم فى العاصمه أثناء هذه الفتره , أثر جدا على مرقيون , و قد كان " جيردون " يكره الماده و هو الأمر المشهور فى النزعه التأمليه الشرقيه , و بالتالى يضع خالق العالم المادى فى درجة ناقصة مقارنة بالله أبى يسوع . إن الموقف المتردد لهذا المعلم تجاه الكنيسه لم يردع مرقيون تلميذه الجرىء من أن يستنتج الأمور المترتبه على هذه الثنائيه الميتافيزيقيه , بشكل جعله يضع المسيحيه ضد أى شىء آخر سابق لها , و خصوصا الدين اليهودى .
ان الأهميه الخاصه لتأثير مرقيون على الكنيسه ترتكز على هذه الحقيقه , فبغض النظر عن التأملات السامقه و الأساطير الكونيه , فقد طبق الغنوصيه مباشرة على الأسئله الدينيه العمليه , و هذا هو سبب المعارضه العنيفه التى لاقاها من الآباء الأرثوذكس أكثر من أى هرطوقى آخر من القرون الأولى .
ان نقطة البدايه فى فكر مرقيون ليس شيئا آخر سوى البولسيه , و التى ضخمها حتى أقصى درجه ممكنه . كان بولس قد اعتبر أن المسيحيه " تجديد للروح " , بالمقارنه باليهوديه التى تهتم بالحرف الذى يقتل , و وصف الجزء الطقسى من ناموس موسى بأنه عبادة الضعفاء , و أن المسيحيين قد تحرروا منه بإيمانهم فى ابن الله .
ان مؤلفى رسالة العبرانيين و رسالة كولوسى قد اعترفا فى الطقوس اليهوديه بأنواع من الأشياء الساميه , و لكنها تعبير ضئيل عن الحقيقه الموجوده فى المسيحيه . إن كاتب رسالة برنابا ذو النزعه البولسيه الصارمه قد ذهب الى ما هو أبعد من ذلك , و وصف أن المحافظه اليهوديه الحرفيه على الناموس هى افساد شيطانى لغرض الله الحقيقى , و علينا فقط أن نخطو خطوة واحده لنجد أنفسنا عند مرقيون الذى يعتبر اله اليهوديه أقل من اله المسيحيه , و هو نفس البون الشاسع الذى يوجد بين الناموس و الإنجيل كمبادىء انجيليه , و بين العالم المادى التى يعنى بها الناموس فى أوامره و العالم السماوى فى الوعد الإنجيلى , و بالتالى فبحسب مرقيون لا بد أن من أعطى الدين اليهودى يختلف عمن أعطى الدين المسيحى .
أن الإله اليهودى أو Demiurgus كما أسماه مرقيون وفق المصطلحات الغنوصيه هو اله قاس و عنيف , و ليس رحيما و ودودا مثل اله الإنجيل , و قد جمع مرقيون كل ما ينسب فى العهد القديم لله من مشاعر انسانيه , و تناقضات بين أوامر الله و طرق عمله فى العديد من المواقف , و قصة السقوط خاصة بدت له غير متوافقه مع الكمال الإلهى . لقد رأى أن هذا العالم المادى شرير جدا و لا يليق أن يكون من صنع الله الحقيقى , و بالتالى فقد ظل الله الحقيقى مجهولا عند العالم القديم , و أعلن أول مرة فى المسيحيه , و وحى هذه الإله فى المسيحيه أعطى دون وساطة تاريخيه بحسب مرقيون .
لقد كان المسيح عند بولس هو الانسان الروحى من السماء , و لكنه بحسب الجسد اتصل بالبشريه الجسديه , خصوصا آباء اسرائيل , و لكن مرقيون حاول ازالة هذه الصله , فمسيحه لا علاقة له باليهوديه و لا بالعالم الجسدى , و لهذا أنكر أن يكون للمسيح جسد حقيقى و أنكر ولادته الجسديه , و قال أن المسيح نزل للأرض مباشرة من السماء , فى روح نقيه لها مظهر جسدى خادع , و أنه ظهر فى المجمع فى كفرناحوم .
لقد نادى الغنوصيون الآخرون بالدوسيتيه , بشكل يقرب قليلا أو يبتعد قليلا عن هذا , و لكن كلامهم وجد له أساسا فى النظريه الميتافيزيقيه عن علاقة الماده بالروح , بينما كان رأى مرقيون لا يرتكز على نظريه ميتافيزيقيه , و رأى أن المسيحيه ينبغى أن تفهم على أنها شىء جديد تماما , و معجزة مفاجئه , ليست لها صلة تاريخية أو طبيعية بالجنس الانسانى السابق , و هذا تضخيم لفكرة بولس أنه فى المسيح لا يوجد يهودى و لا يونانى , بل خليقة جديده .
لقد اشارت رسالة برنابا سابقا الى هذه المسلمه , فقد رأت فى المسيح ابن الله فقط , و لم تعتبره ابن الانسان أيضا , و لدينا دليل واضح على السيطره الكبيره فى الدوسيتيه المرقيونيه للجانب الدينى فوق الهدف التأملى , نجد ذلك فى الغياب المدهش للاتساق ( و الذى عابه ترتليان و معه الحق فى ذلك ) الذى يظهر فى تأكيد مرقيون على حقيقة و آلام موت المسيح بينما ينكر ميلاده و امتلاكه لجسد بشرى حقيقى . و السبب فى عدم الاتساق هذا واضح , فلو كان المسيح مولودا لكانت له صلة بإله العهد القديم , بينما على الجانب الآخر فإن موت المسيح الذى عاناه بسبب هذا الإله يعبر عن التضاد الكامل بينه وبين هذا الإله , و هو الحدث الذى هيأ للإطاحه بحاكم هذا العالم , فبقتله للمسيح افتقد اله العهد القديم أى حق له فى حكم هذا العالم .
من السهل أن نرى فى هذا امتدادا أسطوريا للفكره البولسيه عن تخليص المسيح لنا من لعنة الناموس بأن صار لعنة من أجلنا , أو موتنا للناموس من خلال الناموس , و كما استنتج بولس أخيرا من غنوصيته الخاصه بصلب المسيح نتيجتها , بأننا قد متنا عن الخطيه و صلبنا الجسد بشهواته , كذلك وصل مرقيون أيضا الى نفس الإستدلال فى الكريستولوجى الخاص به , مضخما فى هذه المره أيضا من المثاليه البولسيه , و مؤسسا لنظام زهدى صارم يرى كل شىء طبيعى مستحقا للتعنيف . استاء مرقيون و أتباعه من علاقة الزواج بصفة خاصه , كوضع ينتمى الى عالم اله العهد القديم , و ينبغى للمسيحى أن يبتعد عنه بوصفه عضوا فى العالم غير المادى لإله العهد الجديد , و بالتالى حرم الزواج على أعضاء مذهبه , أما المتزوجون بالفعل فقد طلب منهم التقشف الصارم . بدون شك كان هذا الزهد المفرط الذى أمر به مرقيون لا يقل درجة عن ميوله العقائديه التى أدت الى حرمانه من كل الكنيسه الجامعه , بما فى ذلك البولسيون المعتدلون خاصة الذين حرموه أيضا , و الذين كان يهمهم أن يقطعوا صلتهم بغلاة البولسيين .
لقد ضخم مرقيون من التضاد البولسى بين الناموس و الإنجيل , بينما أحدثت الكنيسه تقاربا بين الإثنين , بحيث صار الإنجيل لها ناموسا جديدا . كذلك فإن مرقيون لم يعترف برسول حقيقى سوى بولس , و لهذا قبل فقط عشرة من رسائل بولس , و صورة مشوهة من انجيل لوقا , و اعتبرها هى الكتب المقدسه الأصيله , و أصر على أن المسيحيين المتهودين قد غيروا من حقيقة الإنجيل , و بالتالى لم تستطع الكنيسه أن تعرف حقيقة التعارض بين الرسل الأوائل , و أخطأت فى وضع بطرس و بولس على قدم المساواه , بل و فى الواقع وضعت بطرس فى مرتبة أعلى من بولس .
بنفس الدرجه التى هددت بها البولسيه الغنوصيه وجود الكنيسه المسيحيه , زاد التقدير لسمعة بطرس , و قد صار اسمه محل جدل تاريخى فى البحث عن السلطه الكنسيه , و هو الأمر الذى شعرت به كنيسة روما مما دعاها لتأسيس نفسها على اسم هذا الرسول .
الى هذا السلوك الأرثوذكسى المضاد لغلو مرقيون فى البولسيه , يدين الكتاب الخيالى ( Tendenz - roman ) الذى ظهر فى منتصف القرن الثانى تحت اسم " عظات و اعترافات اكليمندس " بانتشاره الواسع و شعبيته فى الكنيسه الرومانيه . و الهدف من هذه الكتاب أن يقص على الناس سلسلة من المناظرات العلنيه بين بطرس و سيمون الساحر. يعتبر سيمون الساحر فى هذه الكتاب ممثلا لهرطقة مرقيون , و لكنه فى بعض الأحيان أيضا يعتبر ممثلا لبولس الذى يعتبره الكاتب مؤسس هذه الهرطقه , ففى رسالة بطرس الى يعقوب التى تتصدر هذه الكتاب , يعبر الكاتب اليهودى عن كراهيته لبولس , و أن بطرس يشتكى أن بعض الأمميين يؤمنون بالعقيده الفاسده inimicus homo , و يفسر كلمات بطرس هذه كما لو أنه يعادى الناموس بنفس الدرجه , و لكن لا يجرؤ أن يعلن عن موقفه هذا علانية , و هى اشارة صريحة الى تهمة النفاق التى وجهها بولس لبطرس فى أنطاكيه .
و كذلك فإن نقطة النزاع القديمه المتعلقه بالكرامه الرسوليه لبولس , و التى خاض بولس بسببها عددا من المعارك , تبعث من جديد للحياه , فإن سيمون الساحر يحتج بالرؤى التى يراها , مدعيا أنه عن طريقها صار له معرفة أكثر من بطرس الذى قابل المسيح بالجسد , و يجيب بطرس على هذا بأن الأحلام و الرؤى لا يمكن أن تثبت علما يقينيا , لأنه قد يتسبب فيها روح شريرة أو شيطان خبيث , و فى الواقع فإن هذا هو المحتمل جدا , لأن الصوره غير الماديه لله أو لابنه لا يمكن أن يراها الفانون بسبب نورها السامى , و بالتالى اذا ادعى رجل أنه رأى حلما أو رؤيا , فإن هذا لا يدل بالضروره على أنه رجل تقى , فعلى العكس , فإن الحقيقة تعلن للرجل التقى بواسطة احساس غريزى و عبر البصيره و ليس من خلال الأحلام , فقد وضع الله فى قلوبنا بذور الحقيقه , و يد الله هى التى تكشف عنها أو تغطيها .
عندما يؤكد سيمون ( بولس ) أن الإنسان قد يتعلم من خلال الرؤى فيصير معلما , فإنه يواجه بالسؤال , لماذا ظل الرب عاما كاملا يتحدث مع البشر المستيقظين ؟ , و كيف يمكن لنا أن نصدق أن الرب قد ظهر له بما أنه ينادى بآراء تعارض آراء الرب ؟ " و لكن اذا كان قد جعلك حقا رسولا عن طريق الرؤى و تعليم أخذته فى ساعة زمن , اذن انشر كلامه و ناد بعقيدته , و أحب تلاميذه , و لا تتنازع معى أنا الذى حظيت بمقابلة الرب , فأنت مضاد تقاومنى أنا صخرة الكنيسه و أساسها , و اذا لم تكن عدوا لم يكن لك أن تشتمنى و تحتقر تعليمى , بحيث لا يصدقنى الناس عندما أتحدث بالأشياء التى سمعتها من الرب نفسه , و اذا قلت عنى أننى مدان - غلاطيه 2 .12 - فإنك تتهم الله , الذى أعلن المسيح لى , و أنت تلوم من يباركنى اعتمادا على رؤياك هذه - متى 16 . 18 - . و لكن اذا كنت معينا للعمل من أجل الحقيقة معنا , فتعلم منا أولا الأشياء التى تعلمناها من الرب , و بالتالى تصير تلميذا للحقيقه , و تصير عاملا معنا " . و بالتالى فقد كانت العداوه كامنة فى قلوب الدوائر المسيحيه المتهوده بسبب الموقف الذى حدث فى أنطاكيه , و ظلت فى قلوبهم حتى منتصف القرن الثانى , و بالتالى فقد عارضوا بعند شديد أن يكون لبولس منصب رسولى , و أكدوا على شكهم فى دعوته الى الرسوليه .
إن هذه المعارضه التى نجدها عند " كليمنت - المزيف pseudo-clement "توجه بكل تأكيد ضد المواقف العقيديه لكرازة بولس , فمن وجهة نظره , المسيحية ليست عهدا جديدا و خليقة جديده , بل على العكس هى ليست سوى يهودية نقية و مصلحه , و يقول أن عقيدة موسى و يسوع هى نفس العقيدة , و بالتالى فالله يقبل كل انسان يؤمن بأى منهما , و يحافظ على أوامر أى منهما , و من يعتبر كلاهما كارزا بنفس العقيده , و أن الاشياء القديمه قد صارت جديده و الأشياء الجديده صارت قديمه , و هو انسان غنى فى الله .
بينما تجاوز مرقيون فكرة بولس الرسول , واضعا المسيحيه و اليهوديه على طرفى نقيض , فأحدهما دين الإنجيل و الآخر هو دين الناموس , الا أن " كليمنت المزيف " يعتبر اليهوديه هى الدين الحق لأنها تعترف بالآب الواحد و خالق العالم , العادل فى محاسبته على الأعمال و فى مغفرته للخطايا , و يعتبر المسيحية قد فاقت اليهوديه لأنها أزالت الإضافات المتتاليه على الوحى الإلهى الأصلى و أعادته الى نقاءه الأول , و يعتبر " كليمنت المزيف " أن كل الجزء الطقسى فى ناموس موسى من ضمن هذه الزيادات الفاسده , سويا مع تقييده بأمة اليهود , و كل الصفات و الأفعال التى تنسب لله و لا تتفق مع المفهوم الروحى و الأخلاقى للإله , و كذلك القصص الوارده فى العهد القديم التى تنسب لرجال الله المختارين أفعالا مشينه أخلاقيا . لقد اعتبر أن هذه الأشياء لا تمت بصلة للوحى الحقيقى , بل أصلها نبوات زائفه شيطانيه , الأمر الذى يشير له قول يسوع " كل زرع لم يغرسه أبى السماوى سيقلع " , و هو ما يدل على أن يسوع لم يعتبر هذا من الناموس الأصلى الذى سيظل حتى تزول السماء و الأرض , و الدليل على هذا بحسب " كليمنت المزيف " أن الذبائح اليهوديه , و الملكيه و الأنبياء قد زالت , بينما لا زالت السماء و الأرض موجودتين . و بالتالى نرى أن " كليمنت المزيف " بالرغم من معارضته للثنائيه عند مرقيون , الا أنه يوجه لليهوديه التاريخية درجة من درجات النقد , و هو الأمر الذى يأتى فى المرتبه الثانيه من حيث الجرأه خلفا للمرقيونيه المضاده لليهوديه .
من أجل اثبات وحدة المسيحيه و اليهوديه , و الإنجيل و الناموس , فإنه يميز داخل اطار اليهوديه ذاتها بين الحس المثالى عن الحقيقه المطلقه و الصوره القوميه المحدوده , و يقبل الصوره الأولى على أنها موحى بها , بينما يعتبر أن الصوره الثانيه أصلها شيطانى و يضعها على قدم المساواه بالوثنيه . ان المؤلف البولسى لرسالة برنابا كان قد فعل سابقا نفس هذا التمييز , و بالتالى فقد التقى الرجل البولسى و الرجل المضاد للبولسيه فى الموقع الوسط الخاص بالكنيسه العالميه , حيث أزيل من اليهوديه كل شىء له صبغة قوميه و لا يتفق مع العالميه , بينما احتفظت الكنيسه بأى شىء يبدو أنه يدعم سلطتها و نظامها .
ما كان مهما فى البولسيه عند الكنيسه الناشئه هو مبدأها فى العالميه و ابطالها للناموس اليهودى , و هو ما جعل المسيحيه اليهوديه توائم نفسها و تقدم التنازلات أمام ضغط هذه الحقائق , و لكنها ضغطت على الكنيسه العالميه و أرغمتها على قبول مبدأها فى التبرير بالأعمال و ايجاد نظام كنسى شرعى و هو ما يضاد المبدأ البولسى عن الإيمان و الروح المتحرره .
من ناحية أخرى لا بد أن نعترف أن الغنوصيه المسيحيه اليهوديه التى نادى بها " كليمنت المزيف " تتوافق مع النزعه الزهديه المتأمله للمرقيونيه فى الاعتدال و المسامحه . بينما و بحسب مرقيون نزل المسيح مباشرة من السماء ككائن معجزى ليست له أى علاقه بالجنس الإنسانى , ألا أن " كليمنت المزيف " رأى فيه الوحى الأخير و الأعلى لنفس الروح النبويه الإلهيه , التى ظهرت قبل ذلك فى آدم , و الآباء البطاركه و موسى , و التى لا تختلف عن روح الله الخالده المزروعه فى كل البشر . يما أن آدم كان فيه الروح المقدسه للمسيح كما يؤكد " كليمنت المزيف " كثيرا , اذن فالمسيح ليس ظاهرة فوق طبيعيه , بل بكل بساطه الظهور الأمثل للإنسان المثالى , يختلف فقط عن الظهورات السابقه الناقصه لنفس الروح الإلهيه للإنسانيه .
من الصعب أن نغفل عن تشابه هذه النظريه مع عقيدة بولس فى المسيح بوصفه " آدم الثانى " , و بالتالى من الممكن أن نقول أن الكريستولوجى الخاص ببولس كان حجر الأساس للمدرستين الغنوصيتين , التى نمت فى فكر مرقيون باتجاه الدوسيتيه الروحانيه , بينما أخذت عند " كليمنت المزيف " شكل الأبيونيه التاريخيه .
اذا كان كل البشر السابقين للمسيحيه - بحسب مرقيون - سواء يهود أو أمميين تحت سيطرة الإله الناقص , و ليس لديهم معرفة عن الله الحقيقى , الا أن معرفة الحقيقه بحسب " كليمنت المزيف " مغروسه فى كل قلوب البشر , و يعلنها الله لكل انسان بدرجة تقل أو تزيد على حسب درجة استحقاقه . بما أن الإنسان يحمل فى طبيعته صورة خالقه , أى الله الحسن , فإن هذا الإنسان قادر بل و يجب عليه أن يصير مثل الله عن طريق نقاوة العقل و فعل ما هو حسن , و عليه أن يحترم صورة الله فى البشر الآخرين بأن يبذل لهم المحبه , لأن الدليل على حب الله هو أن تبذل المحبه لمن يحملون صورته . بحسب هذا المفهوم , فإن الوثنى قادر على أن يفعل ما هو حسن , مما يجعله مستحقا لإعلان أعلى من المسيح , كما يتضح هذا فى حالة كليمنت نفسه و أمه العفيفه .
و فى النهايه , اذا كان مرقيون بحسب وجهة نظره الثنائيه عن العالم المادى , نادى بتعاليم زاهده رهبانيه , بل و شجب الزواج باعتباره أمرا لا يسر به الله , إلا أن " كليمنت المزيف " الذى يؤمن بإله واحد يرى أن العالم المادى من خلق الله , و أعد لخدمة الانسان و لنموه الأخلاقى , و بالتالى فالزواج أمر لا ينبغى شجبه , و يأمر الأساقفه أن يحفزوا الشباب على الزواج فى السن المناسب , و فى الواقع فإن نموذجه الأخلاقى يتسم بالحكمه بحيث لا يحلق عاليا فى سماء الحماسه متجاهلا الحياه الطبيعيه للمجتمع الانسانى , بل يعظم من شأنها وفق صبغة دينيه , و بالتالى يساعد الكنيسه فى أن تتم مهمتها فى تعليم العالم .
عندما نفكر أكثر فى التأكيد الشديد على سلطة الكنيسه , و هو الأمر الذى كان ضروريا لنمو المسيحيه فى وسط العداوات و النزاعات , يمكننا أن نفهم لم أن عظات " كليمنت المزيف " المضاد للبولسيه قد لاقت استحسانا فى الكنيسه الرومانيه , و بينما وعلى الرغم من ذلك ظلت ذكرى بولس مكرمه , إلا أن هذه العظات قد استخدمت لتعظيم التأثير الذى أحدثه بطرس بوصفه ممثلا للسلطه التاريخيه لهذه الكنيسه .
ملخص محاضرات عن تأثير بولس على المسيحيه
لخصها ابن أويس القرني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق