.الباب الثاني: دور اليهود في إيذاء عيسى عليه السلام:
.مدخل: السيد المسيح- عليه السلام- ودعوته في القرآن الكريم:
.مولد المسيح- عليه السلام:
المسيح عيسى ابن مريم، من آل عمران عليهم السلام الذين قال الله تعالى عنهم: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم} [سورة آل عمران، 33- 34].حملت به أمه (مريم بنت عمران) بنفخة الملك، فكان حمله ومولده آية للناس ومعجزة، كما قال الله تعالى: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [سورة الأنبياء: 91].
خلق الله عيسى عليه السلام بكلمة (كن)، وكان مولده في بيت لحم، وهي على بضعة كيلو مترات من بيت المقدس، ولما كان مولد المسيح على غير المألوف عند الناس تعرضت أمه العذراء للوم اللائمين ورميت بالفاحشة، بهتانا وظلما، لكن الله تعالى تولى الرد عنها، بأن أنطق وليدها بالحق فـ: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} [سورة مريم: 30- 33].
وذلك بعد أن أمسكت أمه عن الكلام مع القوم حين سألوها، فلما نطق وليدها صدق به قليلون، وتمادي الآخرون في الغي والضلال فاتهموها بالفاحشة.
[انظر بتوسع: المسيحية، أحمد شلبي، صـ34- 37، قصص الأنبياء للنجار، صـ 452- 454، قصص الأنبياء لابن كثير، صـ 351- 396، محاضرات في النصرانية، لأبي زهرة، صـ 14- 18، ط/ دار الفكر العربي، الثالثة، سنة: 1381هـ 1966م، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، جـ1، صـ 367].
وقد علم الله تعالى المسيح عليه السلام التوراة، وآتاه الكتاب والحكم والنبوة، وبعثه نبيا على رأس ثلاثين من عمره- كما جرى على ذلك علماؤنا فيما يخص عيسى، وإن قالوا بالنبوة بعد الأربعين لغيره.
لقد جاء المسيح فدعا إلى التوحيد الخالص، وإلى الإيمان باليوم الآخر وهذا ما قرره القرآن الكريم، يقول الله تعالى على لسان عيسى: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [سورة آل عمران: 51].
كما قال أيضا {وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [سورة المائدة: 72].
وكان من معجزاته (إحياء الموتى) لهذا المعنى، وهو الإيمان بالآخرة التي أنكرها اليهود أو تناسوها، ولمحاربة المادية اليهودية حيث عكف اليهود على المادة واستغرقتهم واستولت على أهوائهم ومشاعرهم.
كما كان من أصول دعوته: التبشير برسول يأتي من بعده، والتبشير بدينه، كما قال تعالى: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومـبشـرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [سورة الصف: 6].
والذي عبر عنه عيسى- كما في الإنجيل- باقتراب ملكوت السماوات.
[محاضرات في النصرانية، صـ22، 13- 21، وقصص الأنبياء للنجار، صـ473- 474].
وأما رسالته فكما قال تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [سورة المائدة: 75].
وقال تعالى: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} [سورة مريم: 30] وقال: {ورسولا إلى بني إسرائيل} [سورة آل عمران: 49] فالقرآن يثبت أنه رسول، وأن ما جاء به وحي، والكفر به كفر بجميع الأنبياء والمرسلين.
[محاضرات في النصرانية، لأبي زهرة، صـ 12، بتصرف].
ولقد نص القرآن الكريم على أن عقيدة المسيح هي التوحيد الكامل، التوحيد بكل شعبه، التوحيد في العبادة فلا يعبد إلا الله، والتوحيد في التكوين، فخالق السماء والأرض وما بينهما هو الله وحده لا شريك له، والتوحيد في الذات والصفات، فليست ذاته بمركبة، وهي منزهة عن مشابهة الحوادث سبحانه وتعالى.
فالقرآن الكريم يثبت أن عيسى ما دعا إلا إلى التوحيد الكامل، وهذا ما يقوله الله تعالى عما يكون من عيسى يوم القيامة من مجاوبة بينه وبين ربه: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [سورة المائدة، 116- 117].
فهذا نص يفيد بصراحة أن عيسى- عليه السلام- ما دعا إلا إلى التوحيد، فغير التوحيد إذن دخل النصرانية من بعد، وما كان عيسى إلا رسول الله رب العالمين.
ولقد نزل على السيد المسيح عليه السلام كتاب هو الإنجيل، وهو مصدق للتوراة، ومحيي لشريعتها، ومؤيد للصحيح من أحكامها، وهو مبشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، وهو مشتمل على هدى ونور، وهو موعظة للمتقين، وأنه كان على أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه، ولذلك قال الله تعالى: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [سورة المائدة: 47].
.دعوة المسيح عليه السلام:
ولقد كانت دعوة المسيح عليه السلام تقوم على أساس أنه لا توسط بين الخالق والمخلوق، ولا توسط بين العابد والمعبود، فالأحبار والرهبان لم تكن لهم الوساطة بين الله والناس، بل كل مسيحي يتصل بالله في عبادته بنفسه، من غير حاجة إلى توسط كاهن أو قسيس أو غيرهما، وليس شخص- مهما تكن منزلته أو قداسته أو تقواه- وسيطا بين العبد والرب في عبادته، ونعرف أحكام شرعه مما أنزل الله على عيسى من كتاب وما أثر عنه من وصايا، وما اقترنت به بعثته من أقوال ومواعظ.[محاضرات في النصرانية، للإمام محمد أبي زهرة، صـ 12، 13، بتصرف].
كما كانت دعوته عليه السلام دعوة إلى المحبة والسلام، والرفق بالضعفاء والبر بالفقراء والمساكين والمضطهدين، والتنويه إلى التسامح والتقوى والتواضع وسائر المكارم الأخلاقية والشخصية والاجتماعية والنفسية، ونهي عن التكالب على الدنيا، والغل والحقد والحسد والكبر والأنانية والنفاق وسائر المنكرات والفواحش، وأيد الوصايا والتشريعات التوراتية مع تخفيف من التكاليف، واهتمام بالجوهر دون العرض، ونعى على اليهود- ورؤساء الدين منهم خاصة- ما ارتكبوا من انحرافات وآثام دينية وخلقية، وما دأبوا عليه من استغلال الدين والاتجار به لمآربهم بأسلوب حكيم نافذ ممتزج بالموعظة الحسنة والأمثال البليغة بحيث كانت دعوته وبشارته معدلة ومصلحة للرسالة الموسوية.
وأضاف إلى الشريعة اليهودية أمره إلى الناس بأن يستعدوا للدخول في الملكوت بأن يحيوا حياة العدالة والرأفة والبساطة، وزاد الشريعة صرامة في مسائل الجنس والطلاق، ولكنه خففها بأن كان أكثر استعداداً للعفو، وخفف الشروط الموضوعة على الطعام والشراب، وحذف بعض أوقات الصوم وأعاد الدين من المراسم والطقوس إلى الصلاح والاستقامة، وندد بالجهر بالصلوات، والتظاهر بالصدقات، والاحتفالات الفخمة بالجنازات وترك الناس أحيانا يظنون أن الشريعة اليهودية سوف تمحي حين يحل الملكوت...
هذه التعاليم والمبادئ التي نادى بها المسيح وأعلنها في بني إسرائيل مثلت اتجاها معاكسا لكثير مما كان عليه القوم من تعاليم وأفكار وقيم.
وبما أن دعوات الحق المعلنة وسط مجتمع قائم على الصراع والاستغلال تجد دائما من يناوئها، ويسعى في مقاومتها واستئصال شأفتها، وخاصة من أولئك الذين تسلبهم هذه الدعوة متكآت الاستغلال والسيطرة والنفوذ، حيث تكشف زيف أعمالهم وتسفر عن قبح وجوههم، وتجلى خبث طويتهم.
ولما كانت دعوة عيسى عليه السلام واحدة من دعوات الحق فقد شكلت خطرا على قوى الاستغلال اليهودي فدخلوا معها في معركة من أخطر المعارك التاريخية التي تعرضت لها دعوات الحق، كما نال عيسى في هذه المعركة ما ناله، وكذا دعوته وأتباعه.
ولما كانت دعوة عيسى عليه السلام تمنع هؤلاء اليهود من السلطان الكاذب، وذلك بكشف زيفهم وريائهم، كما كانت رادة لهم عن الشره المادي المستنـزف لأموال الناس باسم الدين والهيكل.
وحاولت خلق إنسان يستشعر وجوده من أعماقه فيتحول بفعلها إلى إنسان لا تحول بين يقظة ضميره وبين سلوكه في الحياة عوائق من زيف الهوى وعمل المصلحة، وعملت على خلق ترابط اجتماعي من خلال العون والمعونة بأسلوب أخلاقي لا يعرف المنة والاستعلاء.
ثم إن المسيح في دعوته ربطهم ببشرى أن لهم ميراث الأرض وملكوت السماوات، ما إن أدرك سادة اليهود أن هذه الدعوة الجديدة ابتدأت تطور الأرواح وتنقى القلوب وتشفى الأمراض وتخلق في الشعب الأمل لليوم والغد، وتجمعهم وتلم شملهم إلا وقد ملأهم الخوف والفزع من أسلوب المعلم ومن إمكانية تأثيره في قلوب الجماهير المحرومة والمكافحة والمضيع جهدها ما بين تضليل السادة من قومهم واستنـزاف الدولة السيدة والمسيطرة واستغلال الوسطاء والمرابين.
ملأ هذا الخوف قلوب هؤلاء وخاصة لما أعلن المسيح تجريد بني إسرائيل من ميراثهم بقوله: (أقول لكم إن ملكوت الله ينـزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره).
[متى، إصحاح، 21، فقرة43].
وبهذا الإعلان وبقبول بعض الأفراد هذه الدعوة وجهت الحرب للداعي والمعلم المسيح عليه السلام بصور متنوعة.
ولقد كانت دعوة المسيح عليه السلام كما ورد في بعض الآثار، وكما تضافرت عليه أقوال المؤرخين- تقوم على الزهادة والأخذ من أسباب الحياة بأقل قسط يكفى لأن تقوم عليه الحياة، وكان يحث على الإيمان باليوم الآخر، واعتبار الحياة الآخرة الغاية السامية لبني الإنسان في الدنيا، إذ الدنيا ليست إلا طريقا غايته الآخرة، وابتداء نهايته تلك الحياة الأبدية.
ولماذا كانت دعوة المسيح- عليه السلام- إلى الزهادة في الدنيا، والابتعاد عن أسباب النـزاع، والعكوف على الحياة الروحية؟
الجواب عن ذلك: أن اليهود الذين جاء المسيح مبشرا بهذه الديانة بينهم كان يغلب عليهم النزاعات المادية، وكان منهم من يفهم أن الحياة الدنيا هي غاية بني الإنسان، بل إن التوراة التي بأيديهم اليوم خلت من ذكر اليوم الآخر، ونعيمه أو جحيمه، ومن فرقهم من كان يعتقد أن عقاب الله الذي أوعد به العاصين وثوابه الذي وعد به المتقين، إنما زمانه في الدنيا لا في الآخرة.
كما كانت دعوة المسيح- عليه السلام- تحارب اتجاهين تأصلا عند اليهود، هما:
1- شغفهم بالمادة وإهمالهم الناحية الروحية فيهم.
2- ادعاؤهم أنهم شعب الله المختار، وادعاء أحبارهم الصلة بين الله والناس، وبدونهم لا تتم الصلة بين الخالق والمخلوق.
ولشد ما كان ارتياع اليهود وغضبهم عندما شهدوا يسوع يكتسح أمامه كل ما يعتزون به من ضمانات، إذ يعلم الناس أن الله ليس من المساومين، وأن ليس هناك شعب مختار، وأن لا أحظياء في مملكة السماء، وأن الله هو الأب المحب لكل الأحياء، وأنه لا يخص جنسا برعاية، فالخلق عنده سواء.
وبسبب هذا الموقف تعرض عيسى إلى عداء بني إسرائيل وسخطهم، ولم يؤمن به إلا قليلون منهم، فقد انتظروه مسيحا يبسط سلطان بني إسرائيل على العالم أجمع، ولكن خابت آمالهم فيه، ثم عندما رأوا أن بعض الضعفاء اتبعوه، ورأوا أن دعوته تتجه ضد الكهنة خافوا أن تنتشر مبادئه، فأغروا به الحاكم الروماني، ولكن الرومانيين كانوا وثنيين ولم يكونوا على استعداد للدخول في الخلافات الدينية بين اليهود، ولم تكن دعوة المسيح التي أعلنها إلا إصلاحا خلقيا ودينيا فلم تتصل دعوته بالسياسة، ولم تمس الحكومة من قريب أو من بعيد، ولذلك لم يستحق غضب الرومان، ولكن اليهود تتبعوا عيسى لعلهم يجدون منه سقطة تثير عليه غضب الرومان، فلما لما يجدوا تقولوا عليه وكذبوا، فأغضبوا الحاكم الروماني على عيسى، فأصدر أمره بالقبض عليه، وحكم عليه بالإعدام صلبا. وكان الكهنة وغوغاء أورشليم المتمسكون بعقيدتهم السابقة أكبر المتهمين ليسوع.
[المسيحية، د/ أحمد شلبي، صـ46- 47، بتصرف].
لقد عاني السيد المسيح أشد عناء من طوائف اليهود، ومع الخلاف بين هذه الطوائف (الكهنة والفريسيون والصدّيقيون) فإنهم جميعا اتفقوا على محاربة دعوة المسيح والوقوف منها موقف هجوم وصراع، ولذلك هاجمهم السيد المسيح عدة مرات، وأبرز انحلال أخلاقهم وبعدهم عن جادة الصواب، ومن بين ما قال لهم في هذا المجال:
قالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين، فافرحوا وتهللوا، لأن أجركم عظيم في السماوات فإنهم هكذا طردوا الأنبياء من قبل.
[إنجيل متى، 11- 12].
- احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة.
[متى7: 15].
- يا أولاد الأفاعي كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار... جيل شرير وفاسق، أنتم أيها الكتبة والفريسيون.
[متى 12: 34، 38].
- ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون، ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون لأنكم تأكلون بيوت الأرامل، ولعلة تطيلون صلواتكم، لذلك تأخذون دينونة أعظم، ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون للقادة العميان، أيها الحيات أولاد الأفاعي.
[متى 23: 12 وما بعدها].
ا. هـ.
[المسيحية، د/ أحمد شلبي، صـ 38، 33، بتصرف، ط/ مكتبة النهضة المصرية، (العاشرة) سنة 1993م].
للمزيد والمتابعة هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق