إيفا! إيفا! إيفا!.
خرج جون من بوابة المدرسة الثانوية مناديا صديقته إيفا بعد أن تجاوزت البوابة إلى الشارع الرئيسي، وقد أخره عن مصاحبتها زميل استوقفه لسؤال قصير حول موضوع الدرس الأخير في مادة الكيمياء.
جون ذلك الفتى الدنماركي الوسيم صاحب الشعر البني المتموج الذي يتركه أحيانا ليطول على خلاف العادة شهرا بعد شهر؛ ليعود إلى قصه وأحيانا إلى حلاقته كأشهر لاعبي كرة القدم.
جون ذلك الشاب الرشيق الذي زاد من رشاقة جسمه التدريب المنتظم الذي يلتزم به كل مساء على آلاته الرياضية الحديثة القابعة في غرفة صغيرة أسفل شقة بيت عائلته قرب مرآب السيارة (الكاراج).
جون الذي يعيش حياة أسرية هادئة، الأسرة التي تتكون من أب عطوف ديمقراطي وأم حنون، وأخ وأختين جميعهم أصغر منه سنا.
كل أسرته تحب أن تعيش حياة ديمقراطية في كل شيء ما عدا الأصول الاجتماعية والأخلاقية الثابتة، التي اُسْتقيت من تعاليم السيد المسيح في كنيسة المدينة والتي تعلمتها العائلة بشكل أوسع عن طريق صديقة العائلة, وهي راهبة في الكنيسة المسيحية السيدة بربارا التي تلقب نفسها بماريا تَيَمُّنًا بأم المسيح عليه السلام.
توقفت إيفا على حافة الرصيف منتظرة صديقها وزميلها جون قبل أن تصعد إلى أحد القطارات الداخلية التي تمر بين الفَيْنة والفَينة لتعود مع صديقها وزميلها جون إلى منزليهما المتجاورين في ذلك الحي الواقع جنوب المدينة.
إيفا تلك الشابة الرائعة الجمال وكأنها السندريلا في العصر الكلاسيكي.. شعر أشقر متموج، قوام ممشوق, وعيون زرقاء، وشفاه رقيقة حمراء وردية، ومسحة روحية تَطْغَى على جمالها الجسدي؛ انبثقت عن حِشْمة وحياء عُرفت به بين كل زميلاتها, وكأنها راهبة في كنيسة مسيحية، وأحيانا ترتدي ثيابا محتشمة للغاية مع شال تلفه فوق جزء من رأسها وكأنها فتاة من تلك الفتيات المسلمات في أوربا، اللواتي يرتدين ثيابا وسيطة لتتماشى مع الجو الأوروبي، والالتزام الديني الإسلامي.
جون لا شك أنه قد أحب هذه الفتاة فعلا لِما رأى منها من صفات، من النادر وجودها في أي فتاة دنمركية أخرى, وهي معجبة به كذلك، ويبدو أن ما يجمع بينهما هو ذلك الانسجام ذو المسحة الروحية التي تمثلها التزامات أخلاقية قد رُبّيا عليها في ذلك الحي نتيجة تأثرهما بالتعاليم الكنيسية منذ صغرهما خلافا لكثير من الفتيان والفتيات.
ولعل هذا التوافق كان نتيجة لتشابه أسرتي جون وإيفا في كثير من أمور الحياة وأسلوب المعيشة؛ فهما جاران منذ فترة قديمة، ترجع إلى الجدود.
صعد جون وإيفا القطار الداخلي (الذي يمر داخل المدينة فقط)، وجلسا على مقعدين شاغرين في الجزء الأوسط من القاطرة قرب النافذة يتحدثان فيما يتعلق بالدرس الأخير لهذا اليوم في مادة الكيمياء, وينظران بين الحين والآخر من خلال النافذة؛ حتى لا يتجاوز القطار حَيَّهما وهما في غفلة من الحديث.
بدت أُولى معالم الحي لإيفا فنهضت لتستعد للنزول من القاطرة، وخلفها جون وكأنه يحميها من تلك العيون المتلصصة بين الحين والآخر من كثير من الشباب والفتيان الذين لا يملكون نظراتهم من أن تقع على هذه الفتاة المميزة بعض الشيء عن كثير من فتيات الدنمرك المعهودات.
جون بجسمه الرشيق وعضلاته المفتولة وكأنه لاعب كاراتيه يُخيف كثيرا من الفتيان من الاستمرار في النظرات الموجهة لإيفا.
نزل الاثنان من القاطرة وسارا إلى منزليهما, ودّعَت إيفا جون بتحية معتادة مع أمل اللقاء غدا، إما في القاطرة أو المدرسة.
ضغط جون زر الجرس الخاص بمنزلهم لتفتح له أمه بابتسامة رقيقة يملأها حنان الأمومة الفيّاض قائلة: جون!: أنت ولد مطيع حفظك الله (الرب)! فأنت الوحيد الذي تأتي دائما في الوقت المناسب دون تأخير, هيا يا بني لتساعدني في تجهيز الغداء على الطاولة ريثما يعود أبوك بأخيك وأختيك من المدرسة؛ فهو بدون شك سيصل بعد خمس أو عشر دقائق.
حسنا يا أماه!: أَغْسِلُ يدَيَّ ووجهي وآتيك إلى المطبخ حالا.
لم يمض سبع دقائق حتى سُمِعَتْ جَلَبَةُ إخوة جون الصغار: ربرت وإيفا الصغيرة ونتاشا الأخت التي تصغر جون بثلاث سنوات، والأب يطلب منهم الدخول بهدوء ودون جَلَبَةٍ حتى لا ينزعج الجيران. فهو دائما يصر على احترام الجيران ويؤكد لأولاده هذا المبدأ.
دخل الجميع واحدا تلو الآخر ليجدوا طعام الغداء وقد جهز على الطاولة بشكل مُغْرٍ للغاية؛ فقد تعودت الأم أن تفعل ذلك عمدا لتضفي طابعا جميلا ومحببا على وجباتها اللذيذة, توزع الأولاد على الحمّاميْن لغسل الأيدي والوجوه, واكتفى الوالد بغسل يديه ووجهه داخل المطبخ.
جون أعجبه هذا الجو الأسري وهذه العادة الأمومية اللطيفة, وهو يصر على استمرار أمه فيها وعدم التنازل عن هذا الجو إلا في حالة التطوير إلى الأفضل, وهو يتبنى هذا المبدأ في كل قناعاته وحياته، فهو مقتنع ببقاء الأمور على ما هي عليه حتى وجود الأفضل, ولا بأس بتطوير الأمور مادام العقل يرى أنّ تطوير أي برنامج ما هو الأفضل من بقائه على ما هو عليه.
جلس الجميع متقابلين يتناولون طعامهم بلذة ومتعة، وعيونهم تقول بكل فصاحة وبلاغة: شكرا أيتها الأم على هذا الطعام اللذيذ, والطريقة الجذابة.
اعتاد جون أن ينام بعد الغداء بساعة في بعض الأيام وخصوصا إذا كان قد سَهِرَ الليلة الماضية على مذاكرة بعض الدروس أو على حضور فلم من الأفلام التي تعجبه.
اتجه لغرفته الخاصة به وأقفل الباب حتى لا ينزعج بصوت إخوته اللذين ربما يقومون باللعب قليلا فيصدرون بعض الأصوات والجلبة داخل البيت؛ فهم أطفال ولا يمكن منعهم من اللعب؛ لأنه مقتنع بأن لعب الأطفال من فطرتهم التي جُبِلُوا عليها, فكم لعب عندما كان صغيرا، بل ولحد الآن يحب اللعب ولكنه لعب يناسب سِنّه, ويتركز أغلبه على الرياضة. أو السياحة في الأماكن الطبيعية فوق قمم بعض الهضاب الثلجية متزلجا وكأنه نسر يحلق في فضاء من السحاب الثلجي الأبيض.
كان يهوى إضافة إلى اللعب القراءة فهو يعتبرها غذاء الروح والفكر والعقل، ويراها مَنْفَسًا عظيما لأي فراغ في جوانب أخرى, فهي تفتح مدارك العقل إلى أبعد الحدود, وهو يحترم كل الأفكار البشرية, ويقرأ للجميع, بل ويقرأ حتى ما يُتَرْجَمُ من لغات أخرى ِلُيَنِّوَع ثقافته، ويحاولَ أن يحيا حياة الشعوب الأخرى ولو بعقله من خلال قراءة أفكارهم وقصصهم وطبيعة حياتهم وبلدانهم المختلفة، وعاداتهم وتقاليدهم ودياناتهم، بل وأحيانا تجده يبتسم وهو يقرأ كتابا مترجما عن قصة ليست من بلده، بل هي قصة من قصص بعض الشعوب الأخرى, ويسرح معها بخياله مبتهجا وكأنه بطل القصة في عالم مختلف عن عالَمِه.
وأحيانا يُكِدُّ ذهنه ويستوحي كل ما في خياله من إمكانيات ليتمكن من عيش قصة لشعب ما, فمما يصعب عليه هو تصور بيئات أخرى لم يرها من قبل إلا في شاشة التلفاز كالصحراء وبعض الغابات الأفريقية.
ولكنَّ خياله الكبير كان يسعفه ويرضيه نوعا ما؛ فهو يتصور أنه قد أدرك مرمى القصة التي يقرأها لشعب غريب عن شعبه.
ولاحظ أخيرا من نفسه ميوله للقصص المترجمة عن شعوب أخرى، ويرى أنه بحاجة ماسة إليها أكثر من قصص بلده؛ فهي لن تكون غريبة عن واقعه أكثر من غرابة قصة لشعب من الشعوب البعيدة عن موطنه, وخصوصا أنه لم يُتَحْ له من قبل أن يزور بلدا ما غير بلده الذي ولد فيه.
ولكنه يتأسف كثيرا لقلة القصص المترجمة من لغات أخرى, ويلقي باللوم على أصحاب دُور النشر والمكتبات وعدم اهتمامهم بهذا الجانب الذي يراه مُهِمًّا، وخصوصا في هذا العصر الذي أصبح لزاما أن تتواصل الشعوب مع بعضها لتتعارف أكثر، ولتستفيد من ثقافات بعضها.
وأحيانا يشاهد أفلاما أجنبية، غير دنمركية تبثها قنوات أخرى، وبرغم صعوبة اللغة في الفلم إلا أنه يجد متعة في ذلك لدرجة: أن تجده أمه مبتسما لوحده وهو يشاهد الفلم، فتسأل الأم: هل الفلم كوميدي؟ فيجيب لا. فترد الأم: إذن ما المضحك؟. فيجيبها: أبتسم من اختلاف الحياة بيننا وبين شعوب أخرى. ويخبر أمه أنه: يتمنى أن يزور تلك البلدان والشعوب الغريبة عن بلده حتى يضيف لحياته خبرات جديدة وثقافة جديدة.
فتبتسم الأم وتقول: سيتحقق لك ذلك يا جون! ما دام العالم في تطور مستمر, ربما يوما ما نقوم بجولة إلى دول العالم كلها، ويضحكان إثر هذه العبارات المتبادلة.
راح جون في هذه الدوامة من الأفكار التي ربما يراها كثيرون غريبة بعض الشيء, قبل أن يَغُطَّ في قيلولته التي كانت عميقة هذه المرة نتيجة سهره ليلة البارحة، وربما نتيجة استغراقه في هذه الأفكار الغريبة, والخيالات الجامحة.
بعد ساعتين من النوم العميق استيقظ جون، متثاقلا منبهرا، وكأنه قام من حلم غريب مملوء بالتساؤلات عن أمور غريبة ربما لأول مرة يفكر فيها.
ظل جالسا على سريره وهو يلوح بيديه على صدره مشيرا بعلامة الصليب, وكأنه يتعوذ من أمور يكره أن تحدث له نتيجة هذا الحلم الذي رآه فعلا. حلم غريب جعله يُتَمْتِمُ بكلمات من الكتاب المقدس من محفوظات المدرسة ومما حفظه من تعاليم الكنيسة.
فكر فيما ينبغي عليه أن يفعل إثر هذا الحلم (الرؤيا),؛ فهو شاب في الثانوية وينبغي عليه أن يقرر معتمدا على نفسه وعقله, وخصوصا أن أباه قد علمهم الروح الديمقراطية وحرية الفكر والتعبير, وألا يكون الإنسان مقيدا عقله بأفكار وعقول الآخرين، وأن ذلك هو السبيل الوحيد لتطوير العقل, وجعله يفكر بحرية لينتج أكثر.
هكذا غُرِسَتْ فيه كثير من هذه المبادئ، وهكذا قرأ عن كثير من المفكرين؛ فهو قارئ ماهر يَعْرِفُ كيف يميز بين الغث والسمين من الآراء والأفكار.
هل يخبر أمه بما رآه؟. ولكنَّ أمَّه ليس لديها الخبرة الكافية بهذا الذي رآه؟ هل يخبر أباه؟ وماذا يزيد أباه عن أمه في هذا المجال؟
إذن عليه أن يبحث عن الشخص المناسب الذي ربما يعرف أكثر في مجال الحلم الذي رآه.
مَنْ مَنْ يا ترى؟... آه إنه أمر يتعلق بالسيد المسيح.
إذن ليس هناك أدرى من الكنيسة في هذا المجال..
ولكن لمن أذهب في الكنيسة؟ من أرتاح له؟ من أستطيع أن أبثه أفكاري وأسراري؟ من أثق به؟ من يحترم حلمي؟.
أوه. لن أجد في الكنيسة أفضل من السيدة ماريا (بربارا) صديقة الأسرة. تلك الراهبة الطيبة والتي أرتاح لها كثيرا، وتطمئنّ لها نفسي، وأشعر عندها بالأمان، وكأنها أمي الثانية.
جون: لقد بدأ الظلام يخيم, والثلج يتساقط. لقد أَطَلْتُ الْمُكْثَ في الفراش وأنا أفكر بهذا الأمر. نظر جون من النافذة الزجاجية إلى الشارع متمتما بهذه العبارة.
فتح باب غرفته واتجه إلى الحمام لغسل يديه ووجهه, وليكون جاهزا للخروج من البيت؛ لأنه قرر في نفسه أن يذهب إلى الراهبة ماريا في الكنيسة القريبة من البيت؛ لعله يجد لهذا الحلم الغريب العجيب تفسيرا منطقيا ويقبله العقل. فالأحلام جزء من حياتنا وعقولنا.
حيّا جون أمه تحية المساء!, واستأذنها في الذهاب للكنيسة للأم بربارا (ماريا) ليسألها عن بعض الأمور.
كان من عادته زيارة السيدة ماريا في الكنيسة بين الحين والآخر؛ فلم تستغرب الأم هذه الزيارة، وأكدت له فقط على ألا يتأخر.
فرد: حسنا أماه بالكاد لن أتأخر أكثر من ساعة.
خرج ملتحفا بالمعطف الثلجي ومظلة واقية أخرى تمنع تجمع الثلج المتساقط على رأسه.
الكنيسة غير بعيدة من البيت فلم يمض غير عشر دقائق مسيرا على الأقدام حتى وصل إلى الباب الرئيسي للكنيسة ويسأل عن السيدة ماريا فتستقبله هي بنفسها:
أوه عزيزي جون! الابن البار. تفضل يا عزيزي: فأنت في أمان، ما دمت في هذا المكان، هذا المكان الطاهر الذي يربطنا بالسيد المسيح والأم ماريا, والرب الأعظم في عُلاه.
أيتها الأم السيدة ماريا!: أتيت إليك هذه المرة لأمر مهم عندي للغاية, ولم أخبر أحدا به, لأنني لن أجد جوابا يقنعني عند غيرك إذا لم أجده عندك, وأنت تعرفين كم أثق بك وبمعرفتك في هذا المجال!
السيدة ماريا: نعم عزيزي! أعرف وكم تعز عليّ؛ فأنت ابني تماما فقد ربيت فيك العقل، وروح المسيح منذ صغرك, عندما كانت أمك توصيني بأن تأخذ تعاليم المسيحية عني مباشرة.
ما الأمر يا بني؟!
جون: إنه أيتها السيدة الجليلة والأم المباركة أمر يتعلق بالسيد المسيح.
السيدة ماريا: ماذا؟! السيد المسيح.!؟ وأخذت تشير بيدها إلى صدرها علامة الصليب متمتمة: مبارك أنت يا يسوع المسيح, مباركة أمك الطاهرة العفيفة، مبارك الرب في عُلاه.
جون: إنه حلم أغرب من الخيال ! لقد رأيت حلما عجيبا بعد ظهيرة هذا اليوم وأنا نائم عند القيلولة. حلم فيه البُشْرَى والرهبة. خفت من ناحية وفرحت من ناحية أخرى.
السيدة ماريا: حلم بالمسيح!؟ هذا نادر جدا ولا يأتي إلا إلى الصالحين من أتباع المسيح.
إذن تعال يا بني في جانب الكنيسة بالقرب من الرمز المقدس لأستمع لك بدون مقاطعة حتى أسمع قصة الحلم المبارك كلها, فعساه أن يكون بشارة خير ويُمْنٍ وبركة علينا جميعا وعلى العالم كله.
جون يبدأ قصة حلمه العجيب:
رأيت السيد المسيح قد أتى إلي ومعه رجل أبيض مشرب بحمرة وكأنه عربي.
أما السيد المسيح فقد كان رجلا معتدلا ذو شعر سَبْطٍ مسترسل, وذو لحية جميلة ويلبس حُلًّة وجلبابا فضفاضا, وذو مهابة وجلال بشريّ عظيم, ويقبل عليّ بابتسامة, ممسكا بذلك الرجل العربي الذي تعلوه مهابة لم أر مثلها في حياتي، العربي أبيض اللون مشرب بحمرة, كَثّ اللحية، فيه كل كمال الرجولة وجمالها. وهو معتدل القامة كذلك.
يلبس العربي عمامة على رأسه وحلة بدا فيهما بمنتهى روعته البشرية، وبدت خصلات شعره الأسود المتموج من أسفل, كان أيضا مبتسما لي, بسمته تشد الانتباه, لا يتمنى أحد أن يفارق تلك الابتسامة إلا مهابة من ذلك الرجل الإنسي الملائكي.
بدا ليَ العربي معتدلا وسيط القامة, لا بالطويل ولا بالقصير, بادنا متماسكا, ظاهر الوضاءة والحسن, حسن الخَلْقِ والخُلُقِ, أجمل الناس وأبهاهم من بعيد, وأحلاهم وأحسنهم من قريب, عظيم الهامة, واسع الجبين, رَجْلَ الشَّعْرِ أي بين الجعودة والاسترسال, شديد سواد الشعر, أزج الحاجبين في غير قرن, واسع العينين، أدعجهما,(أي شديد سواد العينين وبياضهما), أقنى الأنف يعلوه نور, سهل الخدين عظيم الفم, مُفَلَّجَ الأسنان، وسيما قسيما, يتللألأ من وجهه النور تلألؤ القمر ليلة البدر, وطويل الجيد (العنق) في صفاء الفضة ووضاءتها, بعيد ما بين المنكبين, طويل الزندين رحب الراحة, عريض الصدر, سواءَ الصدر والبطن, عظيم الكراديس (ضخم الأعضاء)، ريحه أطيب من المسك, جل بصره إلى الأرض, وفي نظراته سلطان الآمر الذي يخضع الناسُ لأمره, هاشا باشا, مبتسما طلق الوجه, أكثر ضحكه التبسم, عندما كلمني علاه البهاء, وعندما يصمت يعلوه الوقار، حلو المنطق واضح البيان, أفصح الناس لسانا وأعذبهم بيانا, على ملامحه سيما التأمل والتفكير.[1]
جون: نعم هكذا بدا لي ذلك العربي العظيم.
يواصل جون حديثه والسيدة ماريا منذهلة مما تسمع، ومتشوقة متلهفة لكل كلمة، وكأنها تخشى أن تموت قبل أن ينهي جون قصة حلمه المبارك:
جون يكمل: كانا كالأخوين، لا يكاد الشخص أن يُفَرِّقَ بينهما من ناحية المهابة والجلال البشري, لا فرق بينهما إلا في الشكل. وبدا لي كل منهما جميلا, وكل يتميز بجماله الخاص, وشخصيته المنفردة, ولكنهما يظلان كالأخوين يشع منهما نور الإيمان. ونور الرسل والأنبياء كما تصورناه بخيالنا العاجز. فيما تعلمناه من القصص الكنيسية.
جون يواصل الحديث: شعرت من أول نظرة من المسيح لي وكأنه يريد أن يقول: إن هذا الإنسان العظيم الذي معي هو أخي في الرسالة السماوية من رب السماء.
أيتها الأم المباركة ماريا!: لقد كانا عظيمين عظمة بشرية لا أستطيع وصفها, وتعجز كلماتي بل وكل لغات الدنيا أن تصفهما بالشكل الذي خلقهما الله عليه.
جون يواصل وماريا تصغي بشغف وتتمنى في نفسها من جون أن يسرع لئلا يقطع الحديث قاطع ما, وتتمنى أن يبطئ لتتفهم كل كلمة يقولها:
جون يكمل: ما شدني في ذلك الرجل أو النبي العربي أو الرسول – فمن خلال ما رأيته من صفاته فلن يكون إلا رسولا ونبيا كعيسى المسيح تماما- ما شدني - وإن كان كل شيء فيه يشد الانتباه, ويرغب في بقاء النظر موجها له اللهم إلا مهابة منه ربما تطأطئ برأسك نحو الأرض مهابة- ما شدني هو بسمته المليئة بالرحمة والطيبة والأمان الذي لم أجده في أي إنسان من قبل.
ذلك الرجل أو الرسول كان يتميز بهذه الميزة الخاصة.
جون يواصل حديثه المشوّق وماريا منتبهة ومركزة وكأنها شابة وتلميذة صغيرة تتلهف لتحصيل المعرفة:
جون يكمل: تقدم إلي السيد المسيح ببهائه وجلاله البشري ممسكا بيد أخيه العربي الذي لم تفارق يده يده والنور يشع منهما حتى لكأن غرفتي لم تكن غرفتي، بل وكأنني في مكان آخر. نور على نور؛ فقمت واقفا إجلالا لهما مطرقا برأسي حياء منهما, لا أجرأ أن أرفع رأسي بحضرتهما اللهم إلا بين الفينة والأخرى أسترق النظر؛ لأرشف رشفة من هذا البهاء النبوي المكلل بالإيمان برب السماء والأرض في علاه, اللهم إلا عندما كنت أتلقى أمرا من أحدهما فأرفع رأسي لتنفيذ الأمر.
نعم ماريا ! لقد كان جلالا وعظمة بشرية لم أر مثلها من قبل.
تقدم السيد المسيح وخاطبني:
أتعرف من معي يا جون؟! قلت: من يا سيدي المسيح!.
قال: إنه النبي والرسول محمد (صلى الله عليه وسلم), نعم قالها المسيح هكذا وقال معها تلك العبارة الدُّعائية: (صلى الله عليه وسلم).
أمرني قائلا: جون!: إذا كنت من أتباعي حقا فلابد أن تتبع هذا الرسول وأخي في رسالة السماء, ولا بد أن تنبذ كل من يسخر من أخي هذا, ويا جون يا ابني البار!: كل من يسخر من أخي هذا، أو أي نبي أو رسول من إخوتي السابقين هو ليس مني وإني بريء منه إلى يوم الدينونة: (القيامة). وإن الرب ربي في السماء لن يغفر لكل من سخر من أخي محمد هذا أو غيره من إخواني الرسل.
جون! ألم تصلك بشراي بهذا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وأنه نبي يأتي من بعدي اسمه أحمد؟ فمحمد هو أحمد؛ فاسمه من الحمد فهو محمود في السماء والأرض قلت: لا. يا سيدي لم تصلني.
قال: خسئوا! من مزقوا الحقيقة, وأضاعوا الكتاب الإنجيل الحق.
قال جون: خشيت في نفسي من أن يشملني غضب السيد المسيح ولعنته لأولئك الملعونين.
استمر السيد المسيح يخاطبني جون!: اذهب لمن يطمئن إليه قلبك من أتباعي الباقين في عصركم هذا ليخبرك الحقيقة.
قال السيد المسيح: ماذا لو آمنتم بمحمد (صلى الله عليه وسلم)؟ أما يؤمن أتباع محمد بي وبغيري من الأنبياء؟ لماذا لا تكونون مثلهم وتؤمنون بمحمد وبكل الأنبياء والرسل؟.
اسمع يا جون!: انقل هذه الرسالة وهذه الكلمة إلى كل العالم: إن المسيح بريء من كل من لا يؤمن بمحمد (صلى الله عليه وسلم), أو أي رسول أو نبي من الأنبياء عليهم السلام، وأن لعنة الرب ستحل عليهم جميعا.
السيد المسيح مستمرا في حديثه المبارك: ألاَ إن زمان نهاية العالم قد اقترب، وإني سأعود حاكما ومُخَلِّصًا بشريعة أخي محمد (صلى الله عليه وسلم), وهي الملة الأولى، ملة الحق، ملة إبراهيم, وملة جميع الأنبياء والرسل: إنها الإسلام, والقرآن هو كتاب آخر الزمان بعدما عبث العابثون بالإنجيل الحق, ومزقوا أوراق الحق، وادعوا أنهم صلبوني، وما صلبوني وما قتلوني ولكن شبه لهم، وإنما رفعني الله عنده لأعود لكم آخر الزمان حاكما بشريعة أخي محمد (صلى الله عليه وسلم) التي كذّب بها كثير ممن يدعون أنهم أتباعي.
يستمر السيد المسيح عليه السلام مخاطبا جون:
جون! قل لأتباعي يؤمنوا بمحمد كما يؤمن أتباعه بي, وإلا حلت عليهم اللعنة, وقريبا سأعود لأنزل اللعنة بمن يكفر بمحمد، أو أي نبي أو رسول من الأنبياء.
جون! هل أدركت؟.
قال جون: قلت نعم سيدي المسيح!.
قال: قل: لا إله إلا الله * محمد رسول الله.
قال جون: لقد قلت تلك العبارة العربية التي أسمعها في التلفزيون, وفي مساجد المسلمين في الدنمرك, وأظن أنها تعني الرب في السماء أنه واحد فقط، وأن السيد محمدا هو رسول ونبي مثل السيد المسيح تماما.
عندها ولأول مرة يتكلم ذلك النبي العربي لي وبهذه العبارة فقط: إذن يا جون! فقد آمنت بي طوبى لك!. ستدخل- إن شاء الله- في شفاعتي, ومن دخل في شفاعتي دخل الجنة.
جون: أيتها السيدة ماريا! لقد قلت تلك العبارة كاملة ثم غادراني، وغادر النور معهما؛ وعندها استيقظت من نومي مفزوعا ومستبشرا في آن واحد. مفزوعا من الوعيد الذي يتوعد به السيد المسيح كل من لا يؤمن بمحمد أو بنبي من الأنبياء والرسل, ومستبشرا بالنور الذي غمرني منهما، وبتلك البسمة الرائعة التي استقبلاني بها عند أول اللقاء, والتي تدل على الرحمة والطيبة التي تنبعث منهما.
أيتها الأم ماريا! هذا كل شيء فماذا ترين؟ وماذا أفعل؟.
نظر جون في تلك اللحظة إلى السيدة ماريا فإذا بعينيْها قد اغرَوْرَقتا بالدموع, وهي تتمتم: ارضَ عنا يا يسوعَ المسيح. لا تغضب علينا فأنت من أنقذت الناس بالخبز, وبمائدة السماء.
جون! عزيزي كل ما رأيته حق, وقد أمر به السيد المسيح.
جون بني! أنت تعرف أنني أقرأ كثيرا، وأنني بلغت من السن الستين, وحقِّ السيدِ المسيحِ لقد وقعتْ بيدي مخطوطات وكتب قديمة, قرأتُ فيها كل ما قاله لك السيد المسيح.
سأل جون وما أمْرُ النبي العربي محمد (صلى الله عليه وسلم)؟ هل يجب الإيمان به كما أمر السيد المسيح؟.
ماريا: نعم يا عزيزي يجب أن نؤمن بكل ما أمرنا السيد المسيح؛ إذا كنا أتباعه حقا؛ فلدينا عقل نفكر به, كما أنه يا عزيزي!: إذا آمنا بمحمد (صلى الله عليه وسلم), هذا لا يضر بإيماننا بالسيد المسيح.؛ فهما كما قال سيدي المسيح: أخوان ونبيان ورسولان. ألم تر أن النور الذي يشع منهما نور من مشكاة واحدة؟.
جون: أجل لم يفارقهما ذلك النور المُوَحَّدُ, ولم تنفك يداهما من بعضهما البعض, لقد خرجا ممسكين بيديهما وكأنهما أخوان حميمان.
والآن سيدة ماريا! ما العمل؟.
العمل: افعل ما طلبه منك السيد المسيح وأَخْفِ إيمانك عن الأشرار حتى لا يؤذوك, وحتى يجيء الوقت الذي يستطيع فيه الإنسان أن يتحرر من عبادة الإنسان والشيطان.
خرجت السيدة ماريا وجون من الكنيسة لترافق جون في طريقه إلى المنزل وقد أمسكت بيده وكأنه ابنها البار, والمُواجِهُ لهما يرى على وجهيهما ابتسامة الرضا وهالةً من الإيمان بدت تتحول في الطريق إلى نور يشع أمامهما لا يراه إلا أناس ذاقوا مثل هذا الإيمان.....انتهت.
ـــــــــــــــــ
[1]راجع صفات الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الآثار الصحيحة في وصفه. لقد حاولنا هنا أن لا نزيد في وصفه صلى الله عليه وسلم عما ورد من آثار الصحابة رضي الله عنهم. فليعذرنا القارئ الكريم في هذا المقام فلا يستطيع وصفه إلا من رآه وعاشره من صحابته الكرام رضوان الله عليهم.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/24052/#ixzz2z6hRAYBf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق