إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 16 أبريل 2014

الأفخارستيا

 العشاء الرباني

الدكتور منقذ بن محمود السقار
تؤمن الكنائس المسيحية عامة بسر العشاء الرباني، وتسميه بأسماء كثيرة منها (الأفخارستيا) أي الشكر و (الليتورجيا) أي الخدمة، وتختلف في فاعليته.
وتستند المسيحية في إقرار هذه الشريعة إلى العشاء الذي تناوله المسيح مع تلاميذه قبيل حادثة الصلب، فقد قال لهم وهو يناولهم الخبز: "هذا هو جسدي"، ولما ناولهم الخمر قال: "هذا هو دمي" (مرقس 14/22-24).



ويذكر يوحنا أن المسيح قال لتلاميذه في مطلع خدمته: " من يأكل هذا الخبز النازل من السماء لا يموت، أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء: والخبز الذي أعطيه هو جسدي: الحق الحق أقول لكم: إن كنتم لا تأكلون جسد ابن الإنسان ولا تشربون دمه، فلن تكون فيكم الحياة، ولكن من أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبدية…" (يوحنا 6/50-54).
وزعموا أن المسيح أمر بتجديد العشاء وفعله، فقال: " هذا هو جسدي الذي يبذل من أجلكم، اعملوا هذا لذكري " ( لوقا 22/20).
ويجدر هنا التنبيه إلى أن قصة تجديد العشاء الأخير على أهميتها لم يذكرها يوحنا التلميذ في إنجيله، وأن ما جاء في (يوحنا 6/50-54) لا علاقة له بالعشاء الرباني، بل هو جزء من عظة قديمة للمسيح.
وأما أمر التجديد في لوقا "اعملوا هذا لذكري" مدسوس على الإنجيل، وقد حذفته نسخة الرهبانية اليسوعية وكذلك النسخة القياسية المراجعة النص من نسختها، واعتبرتاه نصاً دخيلاً.
 ويقول المفسر جورج كيرد في تفسيره لإنجيل لوقا (236):" إن قصة العشاء الأخير في لوقا تعتبر كابوساً, فهي تثير مشاكل في أغلب مواضيع دراسة العهد الجديد, كما أنها أعطت الأساس لطوفان من النظريات المتصارعة .. ويبدو أن النصين 19 و 20 قد أخذا مما جاء في مرقس (14/24) و (كورنثوس (1) 11/24-25) ثم أدخلا إلى النص في عهد مبكر على يد كاتب اعتقد أن قصة لوقا خاطئة، إن الفقرة أدخلت في زمن مبكر، وقد اقتبسها أحد الكتبة من (مرقس 14/24) و (كورنثوس (1) 11/24-25)" ([1]).
وقد اختلفت الكنائس المسيحية في فاعلية العشاء الرباني، فالكنائس الإنجيلية ترفض مبدأ الاستحالة إلى جسد ودم المسيح من خلال الخبر والخمر، واعتبر المصلح زونجلي ممارسة طقوس الأفخارستيا مجرد تذكار لموت المسيح، وأما المصلح كالفن فيرى أن حضور المسيح في الخبز والخمر حضور روحي فحسب، وزعم اللوثريون أن المسيح يحضر هذا العشاء بطريقة سرية، وقال لوثر بحضور حقيقي للمسيح، وهو قريب مما يقوله الكاثوليك.
 وأما سائر الكنائس الكاثوليكية  والأرثوذكسية فتقول بالاستحالة "فالشخص المشترك يتناول أو بالمعنى الأصح يأكل بطريقة فعلية وحقيقية جسد المسيح في شكل الخبز والخمر" ([2]).
وقد كان من أوائل من أصّلها باسخاسيوس في منتصف القرن التاسع في كتابه "جسد الرب ودمه"، وقد أقرها المجمع اللاتراني برئاسة البابا إنوسنت الثالث عام 1215م ، كما أقرتها الكنائس الأرثوذكسية صراحة بعد ظهور الإصلاحيين في القرن السادس عشر الميلادي.
وذكر المحققون من البرتستانت أن هذه الفكرة المناقضة للعقل والحس مبتدعة لا تجد لها أثراً عند الآباء الأقدمين ([3]).
وتنبه المحققون إلى مصدر هذه الفكرة الغريبة، فهي وثنية المنشأ، صنعتها العديد من الأمم الوثنية، ومنهم الفرس الذين اعتقدوا أن متراس يمنح البركة للخبز والخمر في العشاء.
وكما كان عُباد يونيشس وأتيس يجتمعون في عيد الحب في مساء أحد السبوت صنع النصارى أيضاً، حيث كان العشاء ينتهي بقراءة فقرات الكتاب المقدس، وفي آخر الطقوس قبلة الحب بين الرجال والنساء.
 وقد ندد العلامة ترتليانوس بهذه العادة القبيحة، واعتبرها موصلة للإباحة الجنسية ([4]).
ونختم بقول فيلسيان شالي: "وما التآخي إلا صورة عن المشاركة ذات الأصل الطوطمي، مشاركة الناس في لحم الكائن المقدس ودمه، وكانت تتم بالخبز في أيلوزيس، وبالخمر لدى المؤمنين بديونيزوس، وبالخبز والخمرة والماء في الميثرائية"([5]).


 ---------------------------
([1]) المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، ص (136).
([2]) تاريخ الفكر المسيحي، الدكتور القس حنا جرجس الخضري (1/326).
([3]) انظر: علم اللاهوت النظامي، جيمس أنِس، ص (619-620).
([4]) انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي (1/240) ، المسيح عليه السلام بين الحقائق والأوهام، محمد وصفي، ص (126-134)، مسيحية بلا مسيح، كامل سعفان ص (83)، ما هي النصرانية، العثماني، ص (168)، المسيحية، أحمد شلبي، ص (148-149)، المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، ص (136).
([5]) موجز تاريخ الأديان، فيلسيان شالي، ص (264).

خاتمة

وهكذا نصل إلى خاتمة مطافنا الطويل في إجابتنا للسؤال الكبير الذي طرحناه: الله جل جلاله، واحد أم ثلاثة؟
فقد رأينا - من خلال هذه الرحلة التي أبحرنا فيها في نصوص الكتاب المقدس – أن المسيح عليه السلام، كان نبياً من أعظم أنبياء الله، وأنه عليه السلام لم يدع ربوبية ولا ألوهية، ولم يستنكف عن عبادة ربه والدعوة إليها طرفة عين.
وثبت لدينا أن كل ما تدعيه النصارى من أدلة ألوهيته سراب يدحضه القليل من التأمل في نصوص الكتاب المقدس، والذي أثبت لنا بشرية المسيح ونبوته عليه السلام.
كما عرفنا ومن خلال الدراسة النقدية المصدر الذي استقى منه بولس هذا المعتقد الوثني، والذي أراد من خلاله النيل من دين المسيح بتحريفه وجعله ديناً وثنياً، وابتعد به عن تعاليم المسيح وتلاميذه، لتظهر المسيحية بثوبها الجديد الذي نسجه بولس، وليختفي التلاميذ والحواريون في أتون الاضطهادات الرومانية، في انتظار بزوغ الفجر الجديد والعهد الأخير، المتمثل في الإسلام ونبيه العظيم، محمد ﷺ.
ولا يسعني وأنا أشكر القارئ الكريم على قراءته لهذه السطور إلا أن أتوجه إليه بدعوة مخلصة لقراءة الحلقة التالية من حلقات سلسلة الهدى والنور، وهي بعنوان: هل افتدانا المسيح على الصليب؟
اللهم اهدنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. اللهم آمين.
الدكتور منقذ بن محمود السقار
المصادر والمراجع

 * القرآن الكريم.
 * الكتاب المقدس. طبعة : دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط (النسخة البرتستانتية).
 * الكتاب المقدس. طبعة : دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط (النسخة الأرثوذكسية الكاثوليكية).
      * الكتاب المقدس. طبعة: الرهبانية اليسوعية (نسخة كاثوليكية أصدرها الآباء اليسوعيون) . توزيع جمعيات الكتاب المقدس في المشرق. بيروت.
      * الترجمة العربية المشتركة، (أصدرها علماء ولاهوتيون كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت)، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، (الطبعة الرابعة للعهد القديم، الطبعة الثلاثون للعهد الجديد).
* الكتاب المقدس . (الأسفار المقدسة العبرانية، الأسفار المقدسة اليونانية). ترجمة العالم الجديد (نسخة شهود يهوه).
----------------------------
 * إظهار الحق. رحمة الله الهندي. تحقيق : محمد أحمد ملكاوي. ط1. دار الحديث. القاهرة، 1404هـ.
 * الإله الذي لا وجود له.الشيخ أحمد ديدات. ترجمة : رياض أحمد باهري. ط2. بيت الحكمة. القاهرة، 1413هـ.
 * براهين تحتاج إلى تأمل في ألوهية المسيح. محمد حسن عبد الرحمن. ط1. دار الكتاب الحديث، 1409هـ .
* تجسد الكلمة، البابا أثناسيوس، ط3 ، مؤسسة القديس أنطونيوس، القاهرة.
* التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، مجموعة من العلماء اللاهوتيين.
 * دعوة الحق بين المسيحية والإسلام. منصور حسين عبد العزيز. ط2. مكتبة علاء الدين. الإسكندرية، 1972م.
 * سلاسل المناظرة الإسلامية النصرانية بين شيخ وقسيس. عبد الله العلمي (ت 1355هـ). ط1، 1390هـ.
* شرح أصول الإيمان، الدكتور القس أندرواس واطسون ، والدكتور القس إبراهيم سعيد، ط4. دار الثقافة المسيحية.
* شرح إنجيل القديس يوحنا، الأب متى المسكين، مطبعة: دير القديس أنبا مقار،1990م.
* شرح بشارة لوقا، القس الدكتور إبراهيم سعيد، ط4، دار الثقافة المسيحية، 1986م.
* طائفة الموحدين من المسيحيين عبر القرون. أحمد عبد الوهاب. مكتبة وهبة. القاهرة.
* عقائد النصارى الموحدين بين الإسلام والمسيحية. حسني يوسف الأطير. ط1. دار الأنصار. 1405هـ.
 * العقائد الوثنية في الديانة النصرانية. محمد طاهر. محمد المجذوب. دار الشواف، 1992م.
 * علم اللاهوت النظامي. جيمس أنس. مراجعة القس منيس عبد النور. الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة. القاهرة
 * الفارق بين الخالق والمخلوق. عبد الرحمن البغدادي. ضبط وتعليق : عصام فارس الحرستاني. ط1. مكتبة دار عمار.عمان، 1409هـ.
 * الله جل جلاله والأنبياء عليهم السلام في التوراة والعهد القديم. محمد علي البار. ط. دار القلم. دمشق، 1410هـ.
 * الله واحد أم ثالوث. محمد مجدي مرجان. دار النهضة العربية.
* المدخل إلى العهد القديم، د. صموئيل يوسف ، ط2، دار الثقافة المسيحية، القاهرة.
 * المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم. محمد علي البار. دار القلم. دمشق، 1410هـ.
 * المسيح إنسان أم إله. محمد مجدي مرجان. تحقيق : عبد الرحمن دمشقية. مكتبة الحرمين.
 * المسيح بين الحقائق والأوهام. محمد وصفي. دار الفضيلة.
 * المسيح في مصادر العقائد المسيحية. أحمد عبد الوهاب. ط2. مكتبة وهبة. القاهرة، 1408هـ.
 * المسيحية الحقة التي جاء بها المسيح. علاء أبو بكر. ط1. مكتبة وهبة. القاهرة، 1418هـ.
 * المناظرة الحديثة في علم مقارنة الأديان. أحمد ديدات. جمع وترتيب : أحمد السقا. ط1. مكتبة زهرة، 1408هـ.
 * مناظرة العصر. أحمد ديدات والقس أنيس شروش. ترجمة : علي الجوهري. دار الفضيلة.
 * مناظرتان في استكهولم. أحمد ديدات والقس شوبرج. دار الفضيلة.
 * موجز تاريخ الأديان، فيلسيان شالي. ترجمة: حافظ الجمالي. ط1. دار طلاس للدراسات والترجمة. دمشق. 1991م.
 * النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام. أحمد عبد الوهاب. ط1. مكتبة وهبة. القاهرة، 1400هـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق