إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 17 أبريل 2014

خرافة الصلب والفداء

خرافة الصلب والفداء
شيخ الإسلام ابن تيمية
النصارى  نسبوا إلى الله من الظلم العظيم على هذا الأصل ما لم ينسبه إليه أحد من الأمم كما سبوه وشتموه مسبة ما سبه إياها أحد من الأمم فهم من أبعد الأمم عن توحيده وتمجيده وحمده والثناء عليه وذلك أنهم يزعمون أن آدم لما أكل من الشجرة غضب الرب عليه وعاقبه وأن تلك العقوبة بقيت في ذريته إلى أن جاء المسيح وصلب وأنه كانت الذرية في حبس إبليس فمن مات منهم ذهبت روحه إلى جهنم في حبس إبليس حتى قالوا ذلك في الأنبياء نوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وغيرهم



ومعلوم أن إبراهيم كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنب أبيه فكيف يؤاخذه بذنب آدم وهو أبوه الأبعد هذا لو قدر أن آدم لم يتب فكيف وقد أخبر الله عنه بالتوبة ثم يزعمون أن الصلب الذي هو من أعظم الذنوب والخطايا به خلص الله آدم وذريته من عذاب الجحيم وبه عاقب إبليس مع أن إبليس ما زال عاصيا لله مستحقا للعقاب من حين امتنع من السجود لآدم ووسوس لآدم إلى حين مبعث المسيح والرب قادر على عقوبته وبنو آدم لا عقوبة عليهم في ذنب أبيهم فمن كان قولهم مثل هذه الخرافات التي هي مضاحك العقلاء والتي لا تصلح أن تضاف إلى أجهل الملوك وأظلمهم فكيف يدعون مع هذا أنهم يصفون الله بالعدل ويجعلون من عدله أنه لا يأمر الإنسان بتعلم ما يقدر على تعلمه وفيه صلاح معاشه ومعاده ويجعلون مثل هذا موجبا لتكذيب كتابه ورسله والإصرار على تبديل الكتاب الأول وتكذيب الكتاب الآخر وعلى أنه يتضمن مخالفة موسى وعيسى وسائر الأنبياء والرسل

والنصارى يقولون إن المسيح الذي هو عندهم اللاهوت والناسوت جميعا إنما مكن الكفار من صلبه ليحتال بذلك على عقوبة إبليس قالوا فأخفى نفسه عن إبليس لئلا يعلم ومكن أعداءه من أخذه وضربه والبصاق في وجهه ووضع الشوك على رأسه وصلبه وأظهر الجزع من الموت وصار يقول يا إلهي لم سلطت أعدائي علي ليختفي بذلك عن إبليس فلا يعرف إبليس أنه الله أو ابن الله ويريد إبليس أن يأخذ روحه إلى الجحيم كما أخذ أرواح نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين فيحتج عليه الرب حينئذ ويقول بماذا استحللت يا إبليس أن تأخذ روحي فيقول له إبليس بخطيئتك فيقول ناسوتي لا خطيئة له كنواسيت الأنبياء فإنه كان لهم خطايا استحقوا بها أن تؤخذ أرواحهم إلى جهنم وأنا لا خطيئة لي

 وقالوا فلما أقام الله الحجة على إبليس جاز للرب حينئذ أن يأخذ إبليس ويعاقبه ويخلص ذرية آدم من إذهابهم إلى الجحيم وهذا الكلام فيه من الباطل ونسبة الظلم إلى الله ما يطول وصفه فمن هذا قوله فقد قدح في علم الرب وحكمته وعدله قدحا ما قدحه فيه أحد وذلك من وجوه
 أحدها أن يقال إبليس إن كان أخذ الذرية بذنب أبيهم فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره وإن كان بخطاياهم فلم يأخذهم بذنب أبيهم وهم قالوا إنما أخذهم بذنب آدم

الثاني أن يقال من خلق بعد المسيح من الذرية كمن خلق قبله فكيف جاز أن يمكن إبليس من الذرية المتقدمين دون المتأخرين وكلهم بالنسبة إلى آدم سواء وهم أيضا يخطئون أعظم من خطايا الأنبياء المتقدمين فكيف جاز تمكين إبليس من عقوبة الأنبياء المتقدمين ولم يمكن من عقوبة الكفار والجبابرة الذين كانوا بعد المسيح

الوجه الثالث أن يقال أخذ إبليس لذرية آدم وإدخالهم جهنم إما أن يكون ظلما من إبليس وإما أن يكون عدلا فإن كان عدلا فلا لوم على إبليس ولا يجوز أن يحتال عليه ليمتنع من العدل الذي يستحقه بل يجب تمكينه من المتأخرين والمتقدمين  وإن كان ظلما فلم لا يمنعه الرب منه قبل المسيح 

 فإن قيل لم يقدر فقد نسبوه إلى العجز وإن قيل قدر على دفع ظلم إبليس ولم يفعله فلا فرق بين دفعه في زمان دون زمان إن جاز ذلك جاز في كل زمان وإن امتنع امتنع في كل زمان
 الوجه الرابع أن إبليس إن كان معذورا قبل المسيح فلا حاجة إلى عقوبته ولا ملام عليه وإن لم يكن معذورا استحق العقوبة ولا حاجة إلى أن يحتال عليه بحيلة تقام بها الحجة عليه

 الوجه الخامس إنه بتقدير أنه لم يقم عليه الحجة قبل الصلب فلم يقم عليه حجة بالصلب فإنه يمكنه أن يقول أنا ما علمت أن هذا الناسوت هوناسوت الرب وأنت يا رب قد أذنت لي أن آخذ جميع ذرية آدم فأوديهم إلى الجحيم فهذا واحد منهم وما علمت أنك أو ابنك اتحد به ولو علمت ذلك لعظمته فأنا معذور في ذلك فلا يجوز أن تظلمني 

 الوجه السادس أن نقول أن إبليس يقول حينئذ يا رب فهذا الناسوت الواحد أخطأت في أخذ روحه لكن سائر بني آدم الذين بعده لي أن أحبس أرواحهم في جهنم كما حبست أرواح الذين كانوا قبل المسيح إما بذنب أبيهم وإما بخطاياهم أنفسهم وحينئذ فإن كان ما يقوله النصارى حقا فلا حجة لله على إبليس # الوجه السابع أن يقال هب أن آدم أذنب وبنوه أذنبوا بتزيين الشيطان فعقوبة بني آدم على ذنوبهم هي إلى الله أو إلى إبليس فهل يقول عاقل أن إبليس له أن يغوي بني آدم بتزيينه لهم ثم له أن يعاقبهم جميعا بغير إذن من الله في ذلك وهل هذا القول إلا من قول المجوس الثنوية الذين يقولون إن كل ما في العالم من الشر من الذنوب والعقاب وغير ذلك هو من فعل إبليس لم يفعل الله شيئا من ذلك ولا عاقب الله أحدا على ذنب  ولا ريب أن هذا القول سرى إلى النصارى من المجوس لهذا لا ينقلون هذا القول في كتاب منزل ولا عن أحد من الحواريين ولهذا كان المانوية دينهم مركبا من دين النصارى والمجوس وكان رأسهم ماني نصرانيا مجوسيا فالنسب بين النصارى والمجوس بل وسائر المشركين نسب معروف
 الوجه الثامن أن يقال إبليس عاقب بني آدم وأدخلهم جهنم بإذن الله أو بغير إذنه # إن قالوا بإذنه فلا ذنب له ولا يستحق أن يحتال عليه ليعاقب ويمتنع وإن كان بغير إذنه فهل جاز في عدل الله أن يمكنه من ذلك أم لم يجز فإن جاز ذلك في زمان جاز في جميع الأزمنة وإن لم يجز في زمان لم يجز في جميع الأزمنة فلا فرق بين ما قبل المسيح وما بعده

الوجه التاسع أن يقال هل كان الله قادرا على منع إبليس وعقوبته بدون هذه الحيلة وكان ذلك عدلا منه لو فعله أم لا فإن كان ذلك مقدورا له وهو عدل منه لم يحتج أن يحتال على إبليس ولا يصلب نفسه أو إبنه ثم إن كان هذا العدل واجبا عليه وجب منع إبليس وإن لم يكن واجبا جاز تمكينه في كل زمان فلا فرق بين زمان وزمان # وإن قيل لم يكن قادرا على منع إبليس فهو تعجيز للرب عن منع إبليس وهذا من أعظم الكفر باتفاق أهل الملل من جنس قول الثنوية الذين يقولون لم يكن يقدر النور أن يمنع الظلمة من الشر ومن جنس قول ديمقراطيس والحنانين الذين يقولون لم يمكن واجب الوجود أن يمنع النفس من ملابسه الهيولي بل تعلقت النفس بها بغير اختياره
الوجه العاشر أن ما فعله به الكفار اليهود الذين صلبوه طاعة لله أو معصية فإن كان طاعة لله استحق اليهود الذين صلبوه أن يثيبهم ويكرمهم على طاعته كما يثيب سائر المطيعين له والنصارى متفقون على أن أولئك من أعظم الناس إثما وهم من شر الخلق وهم يستحلون من دمهم ولعنتهم ما لا يستحلونه من غيرهم بل يبالغون في طلب اليهود وعقوبتهم في آخر صومهم الأيام التي تشبه أيام الصليب وإن كان أولئك اليهود عصاة لله فهل كان قادرا على منعهم من هذه المعصية أم لا فإن لم يكن قادرا لم يكن قادرا على منع إبليس من ظلم الذرية في الزمن المستقبل وإن كان قادرا على منعهم من المعاصي ولم يمنعهم كان قادرا على منع إبليس بدون هذه الحيلة وإذا كان حسنا منه تمكينهم من هذه المعصية كان حسنا منه تمكين إبليس من ظلم الذرية في الماضي والمستقبل فلا حاجة إلى الحيلة عليه # واعلم أن الوجوه الدالة على فساد دين النصارى كثيرة جدا وكلما تصور العاقل مذهبهم وتصور لوازمه تبين له فساده لكن المقصود هنا بيان تناقضهم في أنهم يقيمون عذر أنفسهم في ترك الإيمان بكتابه ورسوله ودينه لكونه سبحانه عدلا لا يأمر الناس بما يعجزون عنه وهو سبحانه لم يأمرهم إلا بما يقدرون عليه وقد نسبوا إليه من الظلم ما لم ينسبه إليه أحد من بني آدم يوضح هذا
الوجه الحادي عشر وهو أنه إما أن يقال في الظلم بقول الجهمية المجبرة الذين يقولون يفعل ما يشاء بلا حكمة ولا سبب ولا مراعاة عدل وإما أن يقال بقول القدرية أنه يجب عليه العدل الذي يجب على المخلوقين وإما أن يقال هو عادل منزه عن الظلم ولكن ليس عدله كعدل المخلوق فهذه أقوال الناس الثلاثة
فإن قيل بالأول جاز أن يسلط إبليس على جميع الذرية بلا ذنب وأن يعاقبهم جميعا بلا ذنب ولا حاجة حينئذ إلى الحيلة على إبليس # وإن قيل بالثاني فمعلوم أن الواحد من الناس لو علم أن بعض مماليكه أمر غيره بذنب يكرهه السيد ففعله كان العدل منه أن يعاقب الآمر والمأمور جميعا
وأما تسليطه للآمر على عقوبة المأمور فليس من العدل وكذلك تسليط الآمر الظالم على جميع ذرية المأمور الذين لم يذنبوا ذنب أبيهم ليس من العدل # وإن قيل بل هو إستحق أن يستعبدهم لكون أبيهم أطاعه قيل فحينئذ يستحق أن يأسر الأولين والآخرين فلا يجوز أن يمنع من حقه بالاحتيال عليه
وإن قيل إنما يستحق أخذهم خطاياهم قيل فله أن يأخذ الأولين والآخرين # وإن قيل هو لما طلب أخذ روح ناسوت المسيح منع بهذا الذنب قيل هذا إن كان ذنبا فهو أخف ذنوبه فإنه لم يعلم أنه ناسوت الإله وإذا إستحق الرجل أن يسترق أولاد غيره فطلب رجلا ليسترقه لظنه أنه منهم ولم يكن منهم لم يكن هذا ذنبا يمنع استرقاق الباقين # وإن قيل إن عدل الرب ليس كعدل المخلوقين بل من عدله أن لا ينقص أحدا من حسناته ولا يعاقبه إلا بذنبه لم يجز حينئذ أن يعاقب ذرية آدم بذنب أبيهم ولم يجز أن يعاقب الأنبياء الذين ليس لهم ذنب إلا ذنب تابوا منه بذنب غيرهم فإن الأنبياء معصومون أن يقروا على ذنب فكل من مات منهم مات وليس له ذنب يستحق عليه العقوبة فكيف يعاقبون بعد الموت بذنب أبيهم إن قدر أنه مات مصرا على الذنب مع أن هذا تقدير باطل ولو قدر أن الأنبياء لهم خطايا يستحقون بها العقوبة بعد الموت وتسليط إبليس على عقوبتهم مع أن هذا تقدير باطل فمن بعد المسيح من غير الأنبياء أولى بذلك فكيف يجوز في العدل الذي يوجب التسوية بين المتماثلين عقوبة الأنبياء ومنع عقوبة من هو دونهم بل من هو من الكفار
الوجه الثاني عشر أن الرب إذا قصد بهذا دفع ظلم إبليس فهلا اتحد بناسوت بعض أولاد آدم ليحتال على إبليس فيمنعه من ظلم من تقدم فإن المنع من الشر الكثير أولى من المنع من الشر القليل أتراه ما كان يعلم أن إبليس يعمل هذا الشر كله فهذا تجهيل له أو كان يعرف وعجز عن دفعه فهذا تعجيز له ثم ما الفرق بين زمان وزمان أم كان ترك منعه عدلا منه فهو عدل في كل زمان
كتابات أخري لشيخ الإسلام ابن تيمية 
شيخ الإسلام يكتب عن خرافة الناسوت واللاهوت
الرجوع الى قسم العقيدة المسيحية
"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق