إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 16 أبريل 2014

نصوص الحلول الإلهي في المسيح

 نصوص الحلول الإلهي في المسيح

د منقذ السقاريرى النصارى أن بعض النصوص المقدسة تفيد حلولاً إلهياً في عيسى عليه السلام، منها قوله: "لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ، وأنا فيه" (يوحنا 10/38)، وفي موضع آخر: "الذي رآني فقد رأى الآب ... الآب الحال فيّ " (يوحنا 14/9-10)، ويبقى أقوى أدلة النصارى على ألوهية المسيح قوله: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10/30).
فهذه النصوص أفادت - حسب قول النصارى - أن المسيح هو الله، أو أن لله حلولاً حقيقياً فيه.
   


 حلول الله المجازي على مخلوقاته


وقد تتبع المحققون هذه النصوص، فأبطلوا استدلال النصارى بها، وبينوا سوء فهمهم لها.
فأما ما جاء من ألفاظ دلت على أن المسيح قد حلّ فيه الله - على ما فهمه النصارى - فإن فهمهم لها مغلوط. ذلك أن المراد بالحلول حلول مجازي كما جاء في حق غيره بلا خلاف، ونقول مثله في مسألة الحلول في المسيح.
فالله - حسب الكتاب المقدس- يحل في كثيرين ، أي حلول المواهب الإلهية، لا حلول الذات العلية التي تتن الحلول في المخلوقات المحدودة، فقد جاء في رسالة يوحنا "من اعترف بأن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه، وهو في الله، ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه" (يوحنا (1) 4/15-16)، فحلول الله في الذين اعترفوا بالمسيح ليس بحلول ذوات، وإلا كانوا جميعاً آلهة.
 ومثله فإن الله يحل مجازاً في كل من يحفظ الوصايا ولا يعني ذلك ألوهيتهم، ففي رسالة يوحنا: "ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه، وهو فيه، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا" (يوحنا (1) 3/24)، فليس المقصود تقمص الذات الإلهية لهؤلاء الصالحين، بل حلول هداية الله وتأييده عليهم.
 وكذا الذين يحبون بعضهم لله؛ فإن الله يحل فيهم برحمته، لا بذاته "إن أحب بعضنا بعضاً؛ فالله يثبت فينا، ومحبته قد تكملت فينا، بهذا نعرف أننا نثبت فيه، وهو فينا" (يوحنا (1) 4/12-13).
وكما في قوله عن التلاميذ: " أنا فيهم، وأنت في" (يوحنا 17/22).
 ومثله يقول بولس عن المؤمنين: "فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً" (كورنثوس (2) 6/16-17)، ويقول: "وأما أنتم فجسد المسيح" (كورنثوس (1) 12/27)، فالحلول في كل ذلك مجازي.
فقد أفادت هذه النصوص حلولاً إلهياً في كل المؤمنين، وهذا الحلول هو حلول مجازي بلا خلاف، أي حلول هدايته ومواهبه وتوفيقه، ومثله الحلول في المسيح، ومن زعم الفرق بين الحلولين وجب عليه إحضار الدليل.

كما تذكر التوراة حلول الله - وحاشاه - في بعض مخلوقاته على الحقيقة، ولا تقول النصارى بألوهية هذه الأشياء، ومن ذلك ما جاء في سفر الخروج "المكان الذي صنعته يا رب لسكنك" (الخروج 15/17)، فقد حل وسكن في جبل الهيكل، ولا يعبد أحد ذلك الجبل.
 وفي المزامير: "لماذا أيتها الجبال المسمنة ترصدون الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه، بل الرب يسكن فيه إلى الأبد" (المزمور 68/16).
ولعل من أهم نصوص الحلول المزعوم قول المسيح: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10/30)، وقوله: "من رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14/9)، فهل يدل النصان على ألوهية المسيح؟


أ. قول المسيح: "أنا والآب واحد"


القول المنسوب إلى المسيح: "أنا والآب واحد" أهم ما يتعلق فيه أولئك الذين يقولون بألوهية المسيح، وقد فهموا منه وحدة حقيقية جهر بها المسيح أمام اليهود، وفهموا منه أنه يعني الألوهية لذاته.
ولفهم النص نعود فنقرأ السياق من أوله، فنرى بأن المسيح عليه السلام كان يتمشى في رواق سليمان في عيد التجديد، فأحاط به اليهود وقالوا: "إلى متى تعلق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً.
أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون. الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي، ولكنكم لستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم: خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي، أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي، أنا والآب واحد" (يوحنا10/24-30).
فالنص من أوله يتحدث عن قضية معنوية مجازية ([1])، فخراف المسيح أي تلاميذه يتبعونه، فيعطيهم الحياة الأبدية، أي الجنة، ولن يستطيع أحد أن يخطفها منه (أي يبعدها عن طريقه وهدايته) لأنها هبة الله التي أعطاه إياها، ولا يستطيع أحد أن يسلبها من الله الذي هو أعظم من الكل، فالله والمسيح يريدان لها الخير، فالوحدة وحدة الهدف لا الجوهر.
يقول الدكتور واين جردوم أستاذ علم اللاهوت مصححاً هذا المعنى للوحدة في سياق حديثه عن بدعة (المودالية أو الشكلية أو السابليانية): "الآية السابقة (يوحنا 10/30) جاءت في سياق يؤكد فيه يسوع أنه سينجز كل ما أوكله إليه الآب، ويخلص كل الذين أعطاهم إياه الآب، وتعني أن يسوع والآب واحد في القصد"([2])، نعم هما واحد في القصد والهدف، لا الذات.
ومثل هذا المعنى نقله المفسر وليم باركلي عن بعض المفسرين: "إن الكلمة مرتبطة بما قبلها، ويسوع هنا يتحدث عن رغبة الهداية ورعاية الله لها وقدرته الاعجازية حول ذلك، وكأنه يقول لهم: أنا والآب واحد في القيام بكل هذه الأعمال"([3]).
لكن اليهود في رواق سليمان كان فهمهم لكلام المسيح سقيماً - أشبه ما يكون بفهم النصارى له -، لذا "تناول اليهود أيضاً حجارة ليرجموه ... لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف، فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً".
فعرف المسيح عليه السلام خطأ فهمهم لكلامه، واستغرب منهم كيف فهموا هذا الفهم وهم يهود يعرفون لغة الكتب المقدسة في التعبير المجازي فأجابهم: " أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة؟" ومقصده ما جاء في مزامير داود: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (المزمور 82/6)، أي فكيف تستغربون بعد ذلك مثل هذه الاستعارات، وهي معهودة في كتابكم الذي جعل بني إسرائيل آلهة بالمعنى المجازي للكلمة؟! فالمسيح أولى بهذه الألوهية المجازية من سائر بني إسرائيل "إن قال: آلهةً لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله .. فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له: إنك تجدف، لأني قلت: إني ابن الله؟ إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي.." (يوحنا10/37).
والنص في نسخة الرهبانية اليسوعية أكثر وضوحاً، وفيه: "أجابهم يسوع: ألم يكتب في شريعتكم: قلت: إنكم آلهة؟ فإذا كانت الشريعة تدعو آلهةً من ألقيت إليهم كلمة الله .. فكيف تقولون للذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم: أنت تجدف، لأني قلت : إني ابن الله".
يقول الأب متى المسكين تعليقاً على هذه الفقرة: "المسيح يستشهد بالمزمور الثاني والثمانين (الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي .. أنا قلت إنكم آلهة ، وبنو العلي كلكم)، فالوحي الإلهي هنا يعطي صفة الآلهة للمجمع الذي يجتمع على الحكم على أساس الحكم بكلمة الله .. يأتي رداً على ادعائهمأن كون المسيح إلهاً يعتبر تجديفاً، في حين أن كل الذين صارت إليهم كلمة الله يدعون في الناموس آلهة" ([4]).
وهكذا وبهذا الشاهد من المزامير صحح المسيح عليه السلام لليهود ثم للنصارى الفهم السيئ والحرفي لوحدته مع الآب.
وهذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة معهود في النصوص خاصة في إنجيل يوحنا، إذ يقول عن التلاميذ على لسان المسيح: "ليكون الجميع واحداً كما أنت أيها الآب فيّ، وأنا فيك، ليكونوا (أي التلاميذ) هم أيضاً واحداً فينا .. ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد... أنا فيهم وأنت فيّ" (يوحنا 17/20-23)، فالحلول في المسيح والتلاميذ حلول معنوي فحسب، وإلا لزم تأليه التلاميذ، فالنص الإنجيلي يستخدم كلمة (كما) والتي تفيد المماثلة بين الطرفين المتقابلين، والمعنى: كما المسيح والآب واحد، فإن التلاميذ والمسيح والآب أيضاً واحد، أي وحدة الهدف والطريق، لا وحدة الذوات، فإن أحداً لا يقول باتحاد التلاميذ ببعضهم أو باتحاد المسيح فيهم بذاته.
 وفي موضع آخر ذكر يوحنا نفس المعنى فقال عن التلاميذ: " أيها الأب القدوس، احفظهم في اسمك الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن" (يوحنا 17/11)، أي كما أن وحدتنا هي وحدة هدف لتكن وِحدتهم بنا كذلك.
 ومثله قوله: "تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم فيّ، وأنا فيكم" (يوحنا 14/20)، فهل هذه النصوص تتحدث عن وحدة ذوات بين الله والمسيح والتلاميذ أم تتحدث عن وحدة مجازية، يشترك فيها كل المؤمنين، كمحبة المسيح أو الدعوة إلى مكارم الأخلاق، فالله والمسيح والأنبياء متحدون في محبة المسيح، وكذلك في الدعوة إلى مكارم الأخلاق؛ من غير أن يقتضي هذا حلول الذوات واتحادها.
ومثل هذه المعاني نستطيع قراءتها في قول بولس: "فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً" (كورنثوس (2) 6/16-17).
ومثله في قوله: "إله وآب واحد للكل، الذي على الكل وبالكل، وفي كلكم" (أفسس 4/6).
وكذلك مثله قول المسيح عليه السلام لتلاميذه: " أنا الكرمة، وأنتم الأغصان، الذي يثبت في، وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير" (يوحنا 15/5)، أي من يحبني ويطيعني ويؤمن بي فهذا يأتي بثمر كثير.
وهكذا يتبين أن المعنى الصحيح لقوله: "لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ، وأنا فيه" (يوحنا 10/38) أي أن الله يكون في المسيح، أي بمحبته وقداسته وإرشاده وتسديده، لا بذاته المقدسة التي لا تحل في الهياكل "العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي" (أعمال 7/48).
وقد تكرر هذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة في نصوص كثيرة، منها قول بولس: " أنا غرست، وأبلُّوس سقى ... الغارس والساقي هما واحد .. فإننا نحن عاملان مع الله" (كورنثوس (1) 3/6-9)، فوحدة بولس مع أبلوس وحدة الهدف المشترك، لا الجوهر والذات.
ومثله جاء في التوراة في وصف الزوجين "يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكونان جسداً واحداً" (التكوين 2/24) أي كالجسد الواحد، لا أن ذاتهما قد أضحت واحدة، وعليه لا يصح الفهم الظاهري السطحي لقوله : "يكون الاثنان جسداً واحداً، إذاً ليسا بعدُ اثنين، بل جسد واحد" (متى 19/5)، ومثله أيضاً لا يصح الفهم الظاهري لقول لابان ليعقوب ابن أخته: "إنما أنت عظمي ولحمي" (التكوين 29/14)، بل المراد بيان المحبة والوحدة المجازية فحسب.
 ومن النصوص التي تفيد وحدة الهدف والغاية بين التلاميذ ؛ مع استعارتها للفظ يدل ظاهره على وحدة الجسد، وليس هذا الظاهر مقصوداً ولا صحيحاً، وذلك في قوله: " هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاً لبعض" (رومية 12/5)، ونحوه في قوله : "ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح" (كورنثوس (1) 6/15)، (وانظر صموئيل (2) 19/12، كورنثوس (1) 12/27)، (أفسس 2/14). وغير ذلك من أمثلة وحدة المشيئة والهدف والمحبة ، لا الذات، التي تماثل قول المسيح: "أنا والآب واحد".
  ومثل هذا الاستخدام للوحدة المجازية، وحدة الهدف والمشيئة ورد في القرآن عن النبي r من غير أن يفهم منه أحد من المسلمين الوحدة الحقيقية، وحدة الذات، وذلك في قوله تعالى، وهو يخاطب نبيه: ﴿إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه﴾ ( الفتح: 10)، فلم يقل أحد من المسلمين أن الله ونبيه ذات واحدة كما صنع النصارى في قول المسيح: "أنا والآب واحد".


 ب. قول المسيح: "الذي رآني فقد رأى الآب"      


 ومن أهم ما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح عليه السلام قوله: "الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14/9)، إذ فهموا منه أن الله الآب هو المسيح، وأن رؤية المسيح هي بالحقيقة رؤية لله عز وجل.
إن هذه الطريقة السطحية في الفهم سقيمة كلاء، وتعرضنا لعدد من الصعوبات المشينة التي ترقى لاعتبارها تجديفاً صارخاً على الله وإساءة إلى مقام الألوهية المنزه عن النقائص والمعايب البشرية، فلئن كان رؤية اليهود للمسيح تعتبر رؤية للآب؛ فإنه - بالضرورة – يعتبر صفع اليهود للمسيح وبصقهم عليه (انظر متى 27/30) صفعاً وبصقاً على الآب خالق السماوات والأرض.
وكذلك فإن جهل المسيح بموعد الساعة (انظر مرقس 13/32-33) يعتبر جهلاً للآب، وكذلك فإن تناول المسيح الطعام والشراب (انظر لوقا 24/42-43) يكون – وفق هذا المنطق السطحي – طعاماً وشراباً لله الآب، فهل الله العظيم خالق السماوات والأرض يأكل ويشرب ويخرج فضلات هذا الطعام والشراب، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
وهذا القول الشنيع يتطابق مع بدعة المودالية أو الشكلية، لذا يقول الدكتور واين جردوم أستاذ علم اللاهوت في تفسير هذا النص: "الآية الأخيرة (يوحنا 14/9) تعني ببساطة أن يسوع يكشف طبيعة الله الآب بشكل كامل"([5]).
ولفهم النص الفهم الصحيح نعود إلى سياقه، فالسياق من أوله يخبر أن المسيح عليه السلام قال لتلاميذه: "أنا أمضي لأعد لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددتُ لكم مكاناً؛ آتي أيضاً وآخذكم " وقصده بالمكان الملكوت.
فلم يفهم عليه توما قوله، وقال: " يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق"، لقد فهم - خطأً- أن المسيح يتحدث عن طريق حقيقي وعن رحلة حقيقية، فقال له المسيح مصححاً ومبيناً أن الرحلة معنوية وليست حقيقية مكانية: "أنا هو الطريق والحق والحياة " (يوحنا14/1-6)، أي أن اتباع شرعه ودينه هو وحده الموصل إلى رضوان الله وجنته.
ثم طلب فيلبُّس من المسيح أن يريهم الله، فنهره المسيح وقال له: " ألست تعلم أني أنا في الأب، والأب فيّ، الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال فيّ هو يعمل الأعمال…" (يوحنا 14/10) أي كيف تسأل ذلك يا فيلبس، وأنت يهودي تعلم أن الله لا يرى، فالذي رآني رأى الآب، حين رأى أعمال الله (المعجزات) التي أجراها على يد المسيح.
يشبه هذا النص تماماً ما جاء متى " ثم يقول الملَك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم، لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني .. فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين: يا رب، متى رأيناك جائعاً فأطعمناك أو عطشاناً فسقيناك، ومتى رأيناك غريباً فآويناك .. فيجيب الملَك، ويقول لهم: الحق أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم" (متى 25/34-40)، ومن المعلوم أن أحداً في الدنيا لا يقول بأن الجائع المطعم هو الملَك رغم قوله: "فبي فعلتم"، إذ هذا على سبيل تقريب المعاني ، لا الحلول والتماهي بين الذوات.
فمثله كمثل قول الشاعر:
             أنا من أهوى ومن أهوى أنا     نحن روحان حللنا بدنا
             فإذا أبصرتنـي أبصرتـه       وإذا أبصرتَه كنـتُ أنا
ويشبهه أيضاً ما جاء في إنجيل مرقس "فأخذ ولداً، وأقامه في وسطهم، ثم احتضنه، وقال لهم: من قبِل واحداً من أولاد مثل هذا باسمي يقبَلني، ومن قبلني فليس يقبلني أنا، بل الذي أرسلني" (مرقس 9/37)، فالنص لا يعني أن الطفل الذي رفعه المسيح هو ذات المسيح، ولا أن المسيح عليه السلام هو ذات الله، ولكنه يخبر - عليه الصلاة والسلام - أن الذي يصنع براً بحق هذا الطفل، فإنما يصنعه طاعة ومحبة للمسيح، لا بل طاعة لله وامتثالاً لأمره.
وكما أن من يرى المسيح فكأنه يرى الله، فإنه من قبِل المسيح وتلاميذه فكأنما قبِل الله عز وجل، ومن كفر بهم ورفض دعوتهم فإنما رفض في الحقيقة دعوة الله ، لذا يقول المسيح: "الذي يسمع منكم يسمع مني، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني" (لوقا 10/16).
ويؤكده مرة أخرى فيقول: "من يَقَْبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني" (متى 10/40)، وكذا من رأى المسيح فكأنه رأى الآب الذي أرسله، لأن "الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال…" (يوحنا 14/10).
ولما كان بولس يضطهد التلاميذ قال له المسيح في رؤيته المزعومة: "شاول شاول، لماذا تضطهدني .. أنا يسوع الذي أنت تضطهده" (أعمال 26/14-15)، وهو لم يضطهد المسيح حقيقة، بل لم يره ، لكن من اضطهد تلاميذ المسيح فقد اضطهد المسيح، ومن قبِلهم فقد قبِل معلمهم، وقبِل الرب الذي أرسله.
ومثله قول بطرس لحنانيا الكاهن مبكتاً إياه على إخفاء بعض ثمن الحقل على التلاميذ "أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر، أنت لم تكذب على الناس، بل على الله" (أعمال 5/4-5)، فالكذب الذي صنعه حنانيا خداع لله، وإن كان في ظاهره مخادعة للناس (التلاميذ)، ولا يعني هذا النص أبداً أن الناس والله ذات واحدة.
وهذا السياق "الذي رآني فقد رأى الآب" الذي يفيد الاشتراك في الحكم بين المسيح والله، والذي عبر عنه هنا بالرؤية معهود في العهد القديم أيضاً، إذ لما رفض بنو إسرائيل تولية ابني النبي صموئيل على بني إسرائيل بعد أبيهما "وقالوا له: هوذا أنت قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب، فساء الأمر في عيني صموئيل ... فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت، بل إياي رفضوا " (صموئيل (1) 8/4-7)، إذ رفضهم طاعة النبي صموئيل هو عصيان لله في الحقيقة.
  والرؤية في قوله: "الذي رآني فقد رأى الآب"  معنوية مجازية، أي رؤية البصيرة، لا البصر، وهي متحققة لكل المؤمنين الذين هم من الله كما قال المسيح عليه السلام : "ليس أن أحداً رأى الآب إلا الذي من الله، هذا قد رأى الآب" (يوحنا 6/46)، ومن المعلوم أن كل المؤمنين هم من الله " كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله" (يوحنا (1) 5/1)، فكلهم رأى الله ببصيرته رؤية المعرفة والإيمان.
 ومما يؤكد أن الرؤيا معنوية أنه قال في تمام النص الذي نحن بصدده: " بعد قليل لا يراني العالم أيضاً، أما أنتم فترونني" (يوحنا 14 /19)، فهو لا يتحدث عن رؤية حقيقية، إذ يتحدث عن رفعه للسماء، فحينذاك لن يراه العالم ولا التلاميذ، لكنه يتحدث عن رؤية معرفية إيمانية يراها التلاميذ، وتعشى عنها وجوه العالم الكافر.
ويشهد له ما جاء في متى: " ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن " (متى 11/27)، فهو المقصود من الرؤية المذكورة في النصوص السابقة.
 ونحوه قوله: "فنادى يسوع وقال: الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني، والذي يراني يرى الذي أرسلني ... لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية، ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية. فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم" (يوحنا 12/ 44-51)، فالمقصود بكل ذلك رؤية المعرفة بالبصيرة، لا البصر.
 وقوله: " والذي يراني يرى الذي أرسلني" ولا يمكن أن يراد منه أن الذي رأى الابن المرسَل قد رأى الآب المرسِل ، إلا إذا كان المرسِل هو المرسَل، وهو محال للمغايرة التي بينهما كما قال المسيح: "أبي أعظم مني" (يوحنا 14/28)، وقال: "أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل" (يوحنا 10/29).
وليس من أحد من النصارى يرضى بالقول بأن الآب هو الابن، فإنهم يقولون بتمايز الأقانيم ، وإن زعموا أنها متوحدة في جوهرها، يقول الأب متى المسكين: " الإيمان المسيحي يقول: إن الأقانيم في الله متميزة، فالآب ليس هو الابن، ولا الابن هو الآب، وكل أقنوم له اختصاصه الإلهي" ([6]) ، وعليه فمن رأى الابن لم يرَ الآب.
وأما قول المسيح: "أنا هو الطريق والحق والحياة" فيقصد فيه المسيح الدعوة إلى التزام تعليمه ودينه الذي أنزله الله عليه، فهو وإخوانه الأنبياء - بتعاليمهم وهديهم - الطريق الموصل إلى الجنة دار الخلود، كما قال في موطن آخر: "ليس كل من يقول لي: يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي" (متى 7 /21)، فالخلاص يكون بالعمل الصالح والبر " أقول لكم: إنكم إن لم يزد بِرّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات.. ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم" (متى 5/20-23).
ويتأكد ضعف الاستدلال بهذا الدليل المزعوم "الذي رآني فقد رأى الآب" إذا آمنا أن رؤية الله الآب ممتنعة في الدنيا، كما قال يوحنا: " الله لم يره أحد قط" (يوحنا 1/18)، وكما قال بولس: "لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية " (تيموثاوس (1) 6/16)، فيصير النص لزاماً إلى رؤية المعرفة والبصيرة كما تقدم بيانه.


ج. معية المسيح الأبدية


ويتعلق الزاعمون بألوهية المسيح بما جاء في أقوال المسيح من نصوص تتحدث عن معية المسيح للتلاميذ ومن بعدهم من المسيحيين، وأنها معية دائمة إلى الأبد، فقد قال وهو يصعد إلى السماء: "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 28/20)، وقال: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم" (متى 18/20)، ففهم منه الواهمون حضوراً ومعية حقيقيين ، واعتبروا هذه المعية دليلاً على الألوهية، فالمسيح موجود في كل زمان ومكان، كما الله موجود في كل زمان ومكان ([7]).
وهنا نلحظ خطأين متراكبين: أولهما: في فهم معية الله لخلقه على الحقيقة، والثاني: في فهم معية المسيح.
فالكتاب المقدس لم يتحدث عن معية حقيقية لله أو للمسيح، فالله تعالى لا يحل في مخلوقاته، ولا يخالطهم، ومعيته لخلقه - تبارك وتعالى - أمر مجازي، معية النصر والتأييد والهداية، ومعية المسيح للتلاميذ هي كذلك معية إرشاد ومعية تعاليم، وقد قال الأنبا غريغوريوس في موسوعته تعليقاً على خاتمة إنجيل متى: "وهذه المعية ليست معية ظاهرة مادية، بل معنوية، بمعنى أنه أعطاهم المواهب والقدرات" ([8]).
وهذا النوع من المعية المجازية لا تكاد تحصى نصوصها - في الكتاب - لكثرتها، ومنها قول يحزيئيل بن زكريا مثبتاً اليهود في حربهم " قفوا اثبتوا، وانظروا خلاص الرب معكم، يا يهوذا وأورشليم لا تخافوا ولا ترتاعوا، غداً اخرجوا للقائهم، والرب معكم" (الأيام (2) 20/17)، ومثله قول موسى: "لأن الرب إلهكم سائر معكم، لكي يحارب عنكم أعداءكم ليخلصكم" (التثنية 20/4)، فالرب معهم بخلاصه وتأييده، لا أنه نزل من السماء فوقف بينهم يقاتل معهم.
ومعية الرب لبني إسرائيل تستلزم معية مقابلة من بني إسرائيل لربهم، وهي معية الإقبال على الله والتذلل بين يديه، فقد قال لهم عزريا بن عوديد : "الرب معكم ما كنتم معه، وإن طلبتموه يوجد لكم، وإن تركتموه يترككم" (الأيام (2) 15/2)، وكل هذا يثبت مجازية هذه المعية([9]).
 وبخصوص المعية الحقيقية المزعومة للمسيح، فإن المسيح عليه السلام قد نفاها عن نفسه حين أخبر تلاميذه بأنه سيغادر الأرض ولن يبقى معهم، فقد قال لهم: "الفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلست معكم في كل حين" (متى 26/11)، وقال: "أنا معكم زماناً يسيراً بعدُ، ثم أمضي إلى الذي أرسلني" (يوحنا 7/33)، وقال: "ولستُ أنا بعدُ في العالم" (يوحنا 17/11)، فحضوره معهم حضور روحي معنوي، كما في قول بولس لأهل كولوسي: "فإني وإن كنت غائباً في الجسد، لكني معكم في الروح فرحاً وناظراً ترتيبكم ومتانة إيمانكم في المسيح" (كولوسي 2/5)، ومثله في (كورنثوس (1) 5/3).


د. المسيح صورة الله


ومن أدلة النصارى على ألوهية المسيح ما قاله بولس عنه: "مجد المسيح الذي هو صورة الله" (كورنثوس (2) 4/4)، وفي فيلبي يقول: "المسيح يسوع أيضاً الذي إذا كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائر في صورة الناس" (فيلبي 2/6-7)، ويقول عنه أيضاً: "الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).
لكن هذه الأقوال صدرت عن بولس الذي لم يشرف برؤية المسيح عليه السلام ولا التلمذة على يديه، ولا نرى مثل هذه العبارات عند أحد من تلاميذ المسيح وحوارييه، وهذا كاف لإضفاء ظلال الشك والارتياب عليها.
ثم إن الصورة تغاير الذات، وصورة الله هنا تعني نائبه في إبلاغ شريعته أو في القيام بشريعته، كما قال بولس في موضع آخر عن الرجل: " فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه، لكونه صورة الله ومجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل" (كورنثوس (1) 11/7)، ومعناه أن الله أناب الرجل في سلطانه على المرأة.
كما أن كون المسيح على صورة الله لا يمكن أن يستدل به على ألوهيته، فإن آدم - وفق الكتاب المقدس - يشارك الله في هذه الصورة، فقد جاء في سفر التكوين عن خلقه: "قال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ... فخلق الإله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه" (التكوين 1/26-27).
فإن أصر النصارى على الجمع بين الصورة وألوهية المسيح فإن في الأسفار ما يخطئهم، فقد جاء في إشعيا "اجتمعوا يا كل الأمم ... لكي تعرفوا وتؤمنوا بي ... قبلي لم يصور إله، وبعدي لا يكون، أنا أنا الرب، وليس غيري مخلص" (إشعيا 43/9-11).


هـ. السجود للمسيح


وتتحدث الأناجيل عن سجود بعض معاصري المسيح له، ويرون في سجودهم له دليل ألوهيته واستحقاقه للعبادة، فقد سجد له أب الفتاة النازفة "فيما هو يكلمهم بهذا إذا رئيس قد جاء، فسجد له " (متى 9/18)، كما سجد له الأبرص "إذا أبرص قد جاء وسجد له " (متى 8/2)، وسجد له المجوس في طفولته " فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم " ( متى 2/11).
فيما رفض بطرس سجود كرنيليوس له، وقال له : "قم أنا أيضاً إنسان" (أعمال 10/25)، فقد اعتبر السجود نوعاً من العبادة لا ينبغي إلا لله، وعليه يرى النصارى في رضا المسيح بالسجود له دليلاً على أنه كان إلهاً.
ولا ريب أن السجود مظهر من مظاهر العبادة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن كل سجود عبادة، فمن السجود ما هو للتبجيل والتعظيم فحسب، فقد سجد إبراهيم إكراماً لبني حث "فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبني حثّ" (التكوين 23/7).
كما سجد يعقوب عليه السلام وأزواجه وبنيه لعيسو بن إسحاق حين لقائه " وأما هو فاجتاز قدامهم، وسجد إلى الأرض سبع مرات، حتى اقترب إلى أخيه.. فاقتربت الجاريتان هما وأولادهما وسجدتا، ثم اقتربت ليئة أيضاً وأولادها وسجدوا، وبعد ذلك اقترب يوسف وراحيل، وسجدا " (التكوين 33/3-7).
 كما سجد موسى عليه السلام لحماه (والد زوجته) حين جاء من مديان لزيارته "فخرج موسى لاستقبال حميه، وسجد، وقبّله" (الخروج 18/7)، وسجد إخوة يوسف عليه السلام تبجيلاً؛ لا عبادة لأخيهم يوسف "أتى إخوة يوسف، وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض" (التكوين 42/6)، واستمرت هذه العادة عند بني إسرائيل " وبعد موت يهوياداع جاء رؤساء يهوذا، وسجدوا للملك " (الأيام (2) 24/7).
وكل هذه الصور وغيرها كثير لا تفيد أكثر من الاحترام، وعليه يحمل سجود من سجد للمسيح عليه السلام.
 وأما رفض بولس وبطرس لسجود الوثنيين لهما، فكان بسبب أن مثل هؤلاء يكون سجودهم من باب العبادة، لا التعظيم، خاصة أنهم يرون معجزات التلاميذ، فقد يظنونهم آلهة لما يرونه من أعاجيبهم.

الدكتور منقذ بن محمود السقار

--------------------------------------------------------------------------------
([1]) يرى القس جيمس أنِس أنه ينبغي أن تفسر النصوص تفسيراً مجازياً إذا كان في سفر مملوء بالاستعارات التي لا تصح فيها التفسيرات الحرفية، فكيف الحال والإصحاح بين أيدينا يتحدث عن معان مجازية . انظر: علم اللاهوت النظامي، جيمس أنس، ص (713).
([2]) كيف يفكر الإنجيليون في أساسيات الإيمان المسيحي، واين جردوم، ص (202).
([3]) تفسير العهد الجديد (لوقا ويوحنا)، وليم باركلي (2/151).
([4]) شرح إنجيل القديس يوحنا، الأب متى المسكين (1/643-644).
([5])كيف يفكر الإنجيليون في أساسيات الإيمان المسيحي، واين جردوم، ص (202).
([6]) شرح إنجيل القديس يوحنا، الأب متى المسكين (1/35).
([7]) ينـزه الإسلام الله تبارك وتعالى عن الحلول في مخلوقاته، فالله بذاته بائن من خلقه، ولكن علمه وقدرته وسمعه أحاط بكل شيء، فلا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو غير محتاج في ذلك إلى التواجد بذاته العلية بين مخلوقاته.
([8]) موسوعة الأنبا غريغوريوس (اللاهوت المقارن)، ص (244).
([9]) وللاطلاع على المزيد من أمثلة المعية المجازية، معية النصر والتأييد والإرشاد. انظر (التكوين 48/21، الخروج 10/10، الأيام (1) 22/18، إرميا 42/11).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق