إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 21 سبتمبر 2012

"أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرَائِيْل" (شَهَادَاتٌ لبعضِ أَهلِ الكتاب وغيرِهم بِالرِّسَالةِ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)


"أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرَائِيْل"

(شَهَادَاتٌ لبعضِ أَهلِ الكتاب وغيرِهم بِالرِّسَالةِ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)

 

     الحمد لله البر الرؤوف الرحيم, بعث نبينا محمداّ صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله, لاصلاح ولا فلاح ولا هدى إلا لمن اهتدى بهديه واستن بسنته.

وُلِدَ الهدى فالكائنات ضياء   ...   وفم الزمان تبسمٌ وثناءُ

الروح والملأُ الملائكُ حوله   ...   للدين والدنيا به بُشَرَاءُ

وبدا مُحيَّاك الذي قسماته   ...   حقٌّ وغرّتُهُ هدىً وحياءُ

وعليه من نور النبوّة رونقٌ   ...   ومن الخليل وهديِهِ سيماءُ

زانتْكَ في الخُلُقِ العظيمِ شمائلٌ   ...   يُغرى بهنَّ ويُولعُ الكُرماءُ

فإذا عفوتَ فقادِراً ومُقَدَّراً   ...   لا يستهينُ بعفوكَ الجُهَلاءُ

وإذا غضبتَ فإنّما هي غضبةٌ   ...   في الحقِّ لا ضغنٌ ولا بغضاءُ

وإذا رضيتَ فذاك في مرضاته   ...   ورضى الكثير تحلّم ورياءُ

وإذا خطبتَ فللمنابرِ هزّةٌ   ...   تعرو النديّ وللقلوب بكاءُ

وإذا صحبت رُئِيَ الوفاءُ مجسّماً   ... في بردك الأصحاب والخلطاءُ

وإذا أخذت العهد أو أعطيته   ...   فجميع عهدك ذمة ووفاءُ

وتمدّ حلمك للسفيه مدارياً   ...   حتى يضيق بعرضك السفهاءُ

الذكر آية ربك الكبرى التي   ...   فيها لباغي المعجزات غناءُ

صدرُ البيان له إذا التقت اللغى   ...   وتقدّم الفصحاء والبلغاءُ

نسخت به التوراة وهي وضيئةٌ   ...   وتخلّف الإنجيلُ وهو ذكاءُ

     أما بعد:  فلا يزال في بني آدم على اختلاف أديانهم وأعراقهم أهل إنصاف لم تسكرهم خمرةُ الكبر, ولم تستهوهم معرّة التيه, ولم تصرفهم ذحولُ الماضي أن يشهدوا بالحق إذا رأوه ووقفوا عليه.

     فمنهم من وُفّق لاعتناقه والإعناقِ في سبيله, أعلن أو أخفى, ومنهم من تحيّر ووقف حتى فاته الخير الذي أيقنه فخُذِلَ, وتنكّب محجته وانقطع ولات حين نجاء! "ومن يضلل الله فما له من هاد" (غافر: 33)

    لقد درس رجال من غير المسلمين بِأَخَرَةٍ سيرةَ النبي صلوات الله وسلامه عليه وأخلاقه وأعماله وأخباره, فكانوا في هذا الأمر على غاية فمنهم من استكبر بعدما رأى الحق فأنكر وخَتَرَ , فرمى الحق بالفِرَى, ووضوحُ فسادِ باطلهم مُغنٍ عن بيانه, وتصوره كاف في إبطاله, وكم أفادوا منه لو كانوا يعقلون!

    ومنهم من اقتدحت زنادَهُم عظَمةُ النبيِّ الأكرم؛ فتبعه أو شهد له بالصدق, وكم من ذي نباهة صرفتْهُ لَبَانَةُ الدنيا وأفاويق المنى فرغِبن به عن الفلاح!

    وفي هذا المقال سنرقم شيئاً من شهاداتٍ مختلفة المكان والزمان, قد تتابعت باللهج والثناء على هذا النبي الخاتم صلوات ربي وسلامه عليه, وهولاء معدودون من عِلية أقوامهم وسادتهم ونبلائهم, فسنرى منهم الزعيم الديني والدنيوي والسياسي البارع والمفكر المنظّر والطبيب المتفوّق والأستاذ النابه في كثير من متبوئة سنام العلى في أقوامهم.

    ولا شك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم غنيّ عن شهادة أحد من الخلق له, فكفى بالله شهيداً, ولكن هذا من باب تنوّع الآيات النبوية والبراهين الرسولية, فالشهادة إذا جاءت بالتصديق من غير الأتباع كانت أدعى للقبول في أقوامهم, وهذا ما أرومُه, وأسأل الله الهدى والتوفيق..

    قال الله تبارك وتعالى: "أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل" [الشعراء: 197]، وقال عز من قائل مشيدًا بمن آمن من علماء أهل الكتاب، وجعلهم حجة على غيرهم: "قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [الأحقاف: 10]، وقال تعالى: "ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب" [الرعد: 43]، "ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" [الصف: 6].

    فالله تعالى قد بثّ البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم في صحف موسى والأنبياء وإنجيل عيسى عليهم السلام، بل إن الإنجيل معناه البشارة، ومهما بلغ الحسد والكبر في نفوس علماء أهل الكتاب فلابد أن يخرج من بينهم منصفون أحرار صادقون، لا يخافون في الحق لومة لائم، وكثير من هؤلاء المنصفين قد دخل في الإسلام لما رأى أنه مخاطَبٌ به. ففاز وحاز الأجرين، وبعضهم اكتفى بالشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة ولم يدخل في الإسلام ــ أو لم يعلن ذلك لظروف خاصة ــ، وآخرون صدقوا وآمنوا بنبوته لكنهم خصوا نبوته بالعرب دون عموم الخلق، وهذا جمع بين النقيضين لأن هذا النبي قد أخبر بعموم رسالته للجميع فإما أن يكون نبيًا صادقًا في كل كلامه أو أن يكون على الضد من ذلك ــ والثاني محال ــ فالأنبياء لا تكذب وأخص صفاتهم الصدق، فثبت من هذا عموم رسالته إلى الثقلين "تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً" [الفرقان: 1]، "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" [الأعراف: 158]، وقال صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»([1]).

     ولنأخذ بعض الأمثلة ــ على وجه الاختصار والاقتصار ــ على شهادة العلماء وكبار القوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق المطلق في رسالته وبلاغه:

     فمنهم حبر اليهود وسيدهم وعالمهم عبد الله بن سلّام رضي الله عنه الذي أسلم بعدما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فما هو إلا أن رأيته فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب» ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسئلة دقيقة لا يعلم جوابها إلا أقل من عدد أصابع اليد، فأجابه واطمأن قلبه للإسلام فاعتنقه وأشهره.

      ومنهم كعب الأحبار الذي أسلم على يد الصحابة، وكان من فقهاء اليهود فأضحى من فقها المسلمين.

    ولما فتحت مصر ذهب المغيرة بن شعبة إلى أسقف كنيسة أبي محنس في الإسكندرية ــ وكان من القبط ــ يسأله عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم فأجابه: بأنه نبي عربي اسمه أحمد، وقد أمرهم المسيح باتباعه، وليس بينهما نبي.

     وما فائدة العقل والفكر والفهم إذا لم يهتد للإله الحق والدين المستقيم؟! فالأمم الكافرة والوثنية كان لها عقول وألباب, ولكن كفرت بالمرسلين, فما أغنت عنهم تلك العقول ولا نادر الفهوم ولا قوة الإمكانات. قال تعالى: "ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ماكانوا به يستهزئون" [الأحقاف: 26]، "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" [الأعراف: 179].

     وكان حبر اليهود الزبير بن باطا يحدّث الناس عن سِفْرٍ وجده بعد أبيه ــ وكان أبوه يكتمه عنه ــ وكان أبوه كبيرهم، وفي السفر ذكر أحمد، وهو نبي يخرج بأرض القرض ــ أي مكة ــ وصفته كذا وكذا.. فما هو إلا أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من مكة إلى المدينة فعمد إلى ذلك السفر فمحاه([2]) والزبير بن باطا هو صاحب القول المشهور لليهود حين أخبرهم بطلوع النجم الأحمر الذي لا يطلع إلا لمبعث نبي.

    وفي الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهودي بمكة يبيع تجارات له، وبينما هو بين قريش إذ قال لهم: «هل كان فيكم مولود هذه الليلة؟» قالوا: «لا نعلمه» قال: «انظروا يا معشر قريش وأحصوا ما أقول لكم ــ أي احفظوه ــ ولد الليلة نبي هذه الأمة أحمد، وبه شامة بين كتفيه فيها شعرات» فتفرق القوم، ثم قالوا له: «ولد الليلة لعبد الله بن عبد المطلب غلام وسمّاه محمدًا» فقام إليه، فرأى الشامة بين كتفيه والشعرات فيها، فسقط مغشيًا عليه، فلما أفاق قال: «ذهبت النبوة من بني إسرائيل، وخرج الكتاب من أيديهم، فازت العرب بالنبوة، أفرحتم يا معشر قريش؟ والله ليسطوَّن بكم سطوة يخرج نبؤها من المشرق إلى المغرب»([3])، وصدق فقد سطا بكفّارهم وبكّتهم في معركة بدر صلوات الله وسلامه عليه فقتل منهم سبعين وأسر سبعين.

     ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بيت المدراس ليهود المدينة فقال: «أخرجوا إلي أعلمكم» فقالوا: عبد الله بن صوريا، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فناشده بدينه وبما أنعم الله عليهم وأطعمهم المن والسلوى([4]) وظلهم من الغمام؛ «أتعلم أني رسول الله؟» قال: «اللهم نعم, وإن القوم ليعرفون ما أعرف، وإن صفتك ونعتك لمبيّن في التوراة، ولكن حسدوك» قال: «فما يمنعك أنت؟» قال: «أكره خلاف قومي، عسى أن يتبعوك، ويسلموا فأسلم»([5])! نعوذ بالله من الخذلان والحرمان!

     وقدم ثمانية من أساقفة نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، منهم العاقب والسيّد، فتكلموا معه، فلما تبيّن لهم الحق أبوا أن يتبعوه، فعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المباهلة ــ بأن يدعو الطرفان بلعن الكاذب منهما ــ ونزل قول الله تعالى: "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" [آل عمران: 61] فانصرفوا ولم يُباهلوا لخوفهم العاقبة على أنفسهم وأهلهم ومالهم، واكتفوا بمصالحة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد عاد أحد الوفد من منتصف الطريق لما أخبره أحد كبارهم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد وهو ينشد:

إليك تعـدو قلقًا وضينهــــا    ...   معترضًا في بطنهـا جنينهــا

مخالفًا دين النصارى دينها

     أما النجاشي ملك الحبشة فأسلم حينما سمع صدر سورة مريم حين تلاها عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

     أما هرقل ملك الروم وعالِـمُهُم فكاد أن يسلم لكنه ضنّ وشحّ بملكه، ولما أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام أرسل إلى نائبه الغساني أن يأتيه بمن كان عنده من العرب من أهل الحرم، فأرسل له أبا سفيان زعيم قريش مع رهط من تجار قريش ــ وكانوا حينها على الكفر ومحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ــ فسألهم أسئلة كثيرة غريبة بلغت أحد عشر سؤالاً، ولما أجابوه علم أنه النبي الحق والمرسل المنتظر، وأنه سيملك ما تحت قدميه، ثم صرفهم ودعا بطاركته ودعاهم إلى متابعة هذا النبي الخاتم، فلما أبوا عليه طمع في استدامة ملكه عليهم، ولم يسلم، وقد طرده المسلمون فيما بعد من الشام، فقال وهو يودعها: «وداعًا يا سورية وداعًا لا لقاء بعده». ولأهمية ذلك الحوار وتلمسه لأمور مهمة من علامات الأنبياء المتحققة في سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم سنسوق غالب  الخبر بطوله من صحيح الإمام البخاري([6]) قال رحمه الله:

     «حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره: أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارًا بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا([7])، فقال: أدنوه منّي وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت عليه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب... إلى أن قال: فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلتُ لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، قلتُ: فلو كان من آبائه من ملكٍ، قلت: رجلٌ يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحدٌ سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تـخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بُصرى فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و"يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" [آل عمران: 64] قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأُخرجنا، فقلت لأصحابي حين أُخرجنا لقد أَمِر أمرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.

وكان ابن الناظور([8]) صاحبُ إيلياء وهرقل أسقفًا على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يومًا خبيث النفس، فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناظور: وكان هرقل حزّاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم مَلِكَ الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مداين ملكك، فيقتلوا من فيهم من اليهود. فبينما هم على أمرهم، أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استـخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه، فحدّثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملكُ هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يَرِمْ حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة([9]) له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلّقت، ثم اطلع، فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلّقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفًا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل».

     وممن شهد لنبي الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ابن حرامش وابن الهيِّبان وكانا من كبار أحبار يهود وقد ماتا قبل البعثة بعدما أوصيا قومهما بمتابعته، وقد أخذ ببشارتيهما مخيريق الذي خرج بسلاحه وقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد حتى قتل ــ واختلف في إسلامه ــ وكان قد أوصى بماله للنبي صلى الله عليه وسلم.

     وممن أسلم من أحبار اليهود زيد بن سعنة بعد أن اكتملت عنده البشارات والعلامات واجتمعت في نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق سوى علامتين وهما أن حلمه يسبق جهله وأن الجهل عليه لا يزيده إلا حلمًا، فاحتال حتى أقرض النبي صلى الله عليه وسلم قرضًا ثم استعجله قبل أوانه وتكلّم عليه بكلام غليظ فحلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فزاد من كلامه ليغيظه فما زاده ذلك إلا حلمًا ثم أمر بقضاء حقه، فلما رأى برهان ما عنده شهد شهادة الحق وأشهر إسلامه وتابعه حتى استشهد في تبوك رضي الله عنه ([10]).

    ولعل الكثير من بني إسرائيل بعد عودتهم من السبي البابلي والفارسي تتبعوا مواطن البشارات ببعثة النبي الخاتم المنتظر، فنزلوا بلاد فاران (الحجاز) وسكنوا في ثراها التي تحتوي على سباخ ونخل وتحوطها حرتان، مثل وادي القرى وخيبر وتيماء وفدك ويثرب (المدينة) ونزل جلّهم الأخيرة لوضوح البشارة بها (طابة) وكان غالب سبط لاوي (الهارونيين الذين منهم المسيح عليه السلام) قد نزلوا المدينة. ويشهد لذلك أن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب القرظي ــ سيد بني قريظة ــ كانت من نسل هارون عليه السلام، وقد يكون أغلب سبطي لاوي ويهوذا قد سلموا من السبي البابلي لأنهم كانوا قد استوطنوا بلاد فاران (الحجاز) قبل ذلك بوقت طويل، وبخاصة المدينة، ولا يمنع أن تكون فاران هي أرض التيه والطور([11])، وقد كانت يهود المدينة إذا غلبتهم قبائل الأوس والخزرج ــ وكانت وثنية حينها ــ كانوا يقولون: إنه قد أظلَّ زمان نبي يهاجر ليثرب نتبعه ونقاتلكم معه، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر للمدينة كفروا به، وقالت الأوس والخزرج: لا يسبقنكم إليه يهود، بل إنهم قد بايعوه على الإسلام لما كان في مكة قبل أن يهاجر إليهم، وكانوا أسرع القبائل دخولاً في دينه لكثرة ما كانوا يسمعون من نعوته وأوصافه وبشارات اليهود به.

     وقد ذكر الله ذلك في محكم التنزيل فقال: "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" [البقرة: 89].

     وممن اطّلعوا على تلك البشارات النبوية والعلامات الرسالية سلمان الفارسي رضي الله عنه، وكان مجوسيًا من بلاد فارس وابن لكبير من دهاقينها ثم هاجر إلى الشام وتنصّر وتنقل بين خمسة أساقفة في الشام ثم الموصل ثم نصيبين ثم عمورية وكان لا يفارق صاحبه حتى يموت، وكان يستوصيه بمن يلحق به من بعده فكان كل واحد يدله على أعلم أهل الأرض في ذلك الزمان حتى يلحق به سلمان ــ ولعلهم من الموحدين المسيحيين ــ حتى كان آخرهم حين حضرته الوفاة واستوصاه سلمان فقال: لا أعلم على ما كنت عليه أنا وأصحابي من أحد ولكن هذا زمان قد أظلته بعثة نبي، وأعطاه خمس علامات حفظها سلمان حتى رآها متحققة مجتمعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخرها خاتم النبوة بين كتفيه على ظهره فآمن به وأسلم([12]).

     وقد اعترف بعض كبار اليهود في أحد مجالسهم كعمرو بن سُعدى والزبير بن باطا وكعب بن أسد بنبوته صلى الله عليه وسلم ثم جعل الاثنان أمرهما لكعب بن أسد فإن أسلم أسلما، لكنه أبى أن يكون تابعًا([13]) وبئس ما اختار لنفسه وقومه، وكانت نهايته أن قتل في سوق المدينة مع سبعمئة من قومه بني النضير.

     ومن المشاهير الذين أسلموا وكانوا من كبار أهل الكتاب الحسن بن أيوب والترجمان وزيادة الراسي، ومن المعاصرين البروفسور القس عبد الأحد داود وإبراهيم خليل والشماس وديع فتحي وغيرهم كثير جدًا ممن لا تحصيهم الكتب بحمد الله تعالى. قال الله تعالى: "إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم" [محمد: 12]، وقال تعالى: "أولئك كالأنعام بل هم أضل" [الأعراف: 179] فالأنعام لم تكلف ولم تـخاطب بالقرآن الكريم وليس لها من الفقه والفهم كما لدى البشر. نعوذ بالله من سوء الحال والمنقلب.

     كذلك فقد اعترف للنبي صلى الله عليه وسلم كثير من العلماء والمشاهير وسادة قومهم له بالرسالة فإلى شيء من ذلك([14]):

     قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد اعترف حذاق الفلاسفة بأنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموس محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا بموجب عقلهم وفلسفتهم»([15]).

     قال الفيلسوف والشاعر الإنجليزي جورج برنارد شو (1817ــ 1902م) في كتابه (محمد) ــ وهو الكتاب الذي أحرقته السلطات البريطانية وقتها ــ: «العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائمًا موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم المدنيات، خالدًا خلود الأبد، وإني أرى كثيرًا من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (أوروبا) إن رجال الدين في العصور الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصّب قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوًا للمسيحية. لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوًا للمسيحية، بل يجب أن يُسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنه لو تولّى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يأتي به من السلام والسعادة التي يرنوا إليها البشر».

وقال أيضًا: «جدير بكل ذي عقل أن يعترف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه رسول من السماء إلى الأرض، هذا النبي فتح برسالته عصرًا للعلم والنور والمعرفة، حريّ أن تدور أقواله وأفعاله بطريقة علمية خاصة، وبما أن هذه التعاليم التي قام بها هي وحي فقد كان عليه أن يمحو ما كان متراكمًا على الرسالات السابقة من التبديل والتحوير»([16]) ولكأنما هذا المفكر ممن يكتمون إيمانهم رَهَباً أو رَغَبَاً, كذلك الألماني غوتة والروسي ليو تولستوي..والله أعلم بحقائق أحوالهم, لكن ظاهر حالهم الكفر دون الإيمان, وإن كان قد شعّ نور الإعجاب بهذا الدين ونبيه من بين ثنايا مؤلفاتهم وتضاعيف كلامهم, والله أعلم بحقائقهم.

     وقال المستشرق المشهور غوستاف لوبون: «إن محمد هو أعظم رجل في التاريخ»([17])، فهذا الرجل لم يسلم وقد اطلع على روايات العهد القديم والجديد وقرأ القرآن الكريم وعرف السيرة النبوية، فهل سيغش قومه وأهل ديانته؟! ومن هو أعظم رجل في التاريخ على الإطلاق إن لم يكن هو هذا النبي المنتظر المختار؟!

     وفي كتاب آن بيزيت (حياة وتعاليم محمد)([18]): «من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم، ويعرف كيف عاش هذا النبي، وكيف علّم الناس، إلا أن يشعر بتبجيل لهذا النبي الجليل، أحد رسل الله العظماء، ورغم أني سوف أعرض فيما أروي لكم أشياء وقد تكون مألوفة للعديد من الناس، فإني أشعر في كل مرة أعيد فيها قراءة هذه الأشياء بإعجاب وتبجيل متجددين لهذا المعلم العربي العظيم».

     وقال الدكتور النمساوي شبرل ــ عميد كلية الحقوق بجامعة فيينا ــ: «إن البشرية لتفتـخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ أنه رغم أميته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيون أسعد ما نكون إذا توصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة»

     قلت: وأنّى ذلك فهي النبوة والوحي، لذلك لما قال أبو سفيان للعباس غداة دخول المسلمين مكة يوم فتحها: يا أبا الفضل، والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا، قال: يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: نعم إذًا.([19]).

     وقال البروفيسور ماكر يشناراو في كتابه (محمد النبي): «هذه نبذة عن حياته من صور جميلة متتابعة، فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، ومحمد حامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلاً».

     وقال الأمريكي مايكل هارت في كتابه الشهير (العظماء الخالدون مئة): «إن اختيار محمدًا ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ وقد يدهش القراء، لكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي، فهناك رسل وأنبياء وحكماء بدأوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم، أو سبقهم إليها سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمدًا هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته، ولأنه أقام جانب الدين دولة كاملة جديدة... فهو الذي بدأ الرسالة الدينية الدنيوية وأتمها»([20]).

     والذي نعتقده ونستيقنه أن المسيح عليه السلام حي لم يمت, وأنه في السماء الثانية وسينزل في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً ونورًا وإسلامًا. والعجيب أن هارت قد جعل بولس في رتبة متقدمة على المسيح عليه السلام، وقد علّل ذلك بأن بولس هو المؤسس الحقيقي للديانة المسيحية الحالية وأن إسهامه فيها أكثر من إسهام المسيح، وصدق فالمسيحية الحالية أولى بها أن تسمى البولسية فالمسيح عليه السلام براء منها.

     وقال المفكر الهندوسي ديوان شاند شارما في كتابه (نبي الشرق): «كان محمد أعطف رجل، وقد شعر من حوله بتأثيره الذي لا ينسونه أبدًا»([21]).

     وقال الزعيم الهندي الشهير جواهر لال نهرو: «لقد تعب الناس من النظام القديم، وتاقوا إلى نظام جديد، فكان الإسلام فرصتهم الذهبية؛ لأنه أصلح الكثير من أحوالهم، ورفع عنهم كابوس الضيم والظلم»([22]).

     وقال جون وليم درابر: «في عام (569م) ولد بمكة في شبه الجزيرة العربية الرجل الذي فاق كل الرجال في ممارسة أعظم تأثير على الجنس البشري محمد»([23]).

     وقال بوسورث سميث في كتابه (محمد والإسلام): «ذو قدر يندر وجوده على الإطلاق في التاريخ، محمد هو مؤسس ثلاث دعائم؛ أمة وإمبراطورية وديانة.. من المستحيل لأي شخص درس حياة هذا الرسول العربي العظيم الذي هو واحد من أعظم رسل الله إلا أن ينحني احترامًا لهذا الرسول المبجل القوي»([24]) ولو انحنى لهذا الرسول لنهاه، فهو جاء ليحني الناس ظهورهم لله لا له، عليه الصلاة والسلام.

     وفي (الموسوعة البريطانية)([25]): «كان محمد أنجح الشخصيات الدينية على الإطلاق»،      وهذه شهادة منهم لمن قال ربه فيه: "وإنك لعلى خلق عظيم" [القلم: 4]، وقال للخلق منوّهًا بشأنه: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" [الأحزاب: 21]، فهو أحق البشر على الإطلاق أن يؤتسى ويقتدى به ويتّبع.

     وفي عام (1840م) ألقى المصلح الإنجليزي الاجتماعي والحاصل على جائزة نوبل توماس كاريل سلسلة محاضرات بعنوان (الأبطال وتمجيد البطل)([26]) وقد ابتدأها بالدفاع عن نبي الإسلام بقوله: «إن الأكاذيب التي نسجها الآخرون حول هذا الرجل سيلحق بنا نحن فقط عارها وخزيها([27])، ثم تكلم عن إخلاص هذا النبي العظيم وحسن أخلاقه: «إخلاص هذا الرجل العظيم لا يمكن التعبير عنه.. كان ذو خلق عظيم رزين... لا يستطيع أحد أن يجاريه.. أما وفاؤه فلا حدود له... وذو صدق وأمانة في كل ما يفعل ويقول ويعتقد.. وليس بمتملق بل يتميز بقوته وشدته في الحق إذا اقتضى الأمر ذلك، ولا يتكلف الأمور.. لم يمارس الكذب قط.. وكلامه مختلف تمامًا عن كلام السحرة... لم يكن ليطمح في ملك في الدنيا لأن همته أرفع من ذلك... لم يتهم بخطيئة أو إثم أبدًا... لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث في هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذبٌ، وأن محمدًا خداع مزور».

     أما الشاعر الفرنسي الشهير لامارتين فقد وضع ثلاثة معايير كي يحدد أعظم إنسان في التاريخ، وهي سمو الهدف، وبساطة الوسائل، والنتائج المذهلة. ثم درس التاريخ وخرج بالنتيجة التالية: «لا يوجد رجل عظيم في التاريخ يمكن مقارنته بمحمد... إن محمدًا أقل من الإله، وأعظم من الإنسان العادي » أي أنه نبي ([28]).

     أما شاعر ألمانيا وأديبها ومفكرها في القرن التاسع عشر غوته فقد أحب النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأعلن إعجابه به وبدينه، وله قصائد ومؤلفات في مدح الإسلام والقرآن الكريم، ومنها (تراجيديا محمد) وله قصيدة رقيقة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كتب في حبه وإجلاله مسرحية لكنها لم تكتمل لوفاته قبل إتمامها([29])، ومن أقواله المشهورة: «إن التشريع في الغرب ناقص بالنسبة للتعاليم الإسلامية، وإننا أهل أوروبا بجميع مفاهيمنا لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدم عليه أحد... لم يعتر القرآن أي تحريف أو تبديل، وعندما تستمع إلى آياته تأخذك رجفة الإعجاب والحب، وبعد أن تتوغل في دراسة روح التشريع فيه؛ لا يسعك إلا أن تقدس هذا الكتاب السماوي وتعظمه» وقال: «كان الرسول مُعدًّا إعدادًا ربانيًا انفرد به من بين سابقيه من الرسل والأنبياء على كثرتهم... لقد بحثت في التاريخ عن مَثَلٍ أعلى للإنسان فوجدت ذلك في النبي محمد، وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد».

     أما الرسام العالمي الكاثوليكي إيتيان دينيه فقد أسلم عام (1927م) وتسمى نصر الدين دينيه, وكان أول ما أعجبه في الإسلام موافقته لمبادئ العقل، فتعمق في دراسة الإسلام ثم ألف كثيرًا من المؤلفات خلال أيام إسلامه القصيرة، وأهم تلك المؤلفات كتبه الثلاثة (الشرق كما يراه الغرب) (أشعة خاصة بنور الإسلام) (محمد رسول الله) وقد تصدى فيها لكشف شبهات المستشرقين وافتراءاتهم على الدين الحنيف. وقد توفي رحمه الله بعد سنتين من إسلامه، ونقل جثمانه من باريس ليدفن في مدينة (بوسعادة) بالجزائر عام (1929م).

     كذلك فقد أسلم المستشرق النمساوي ليوبولد فايس سنة (1926م) وتسمى محمد أسد، ومن أشهر كتبه (الطريق إلى مكة)، (رسالة القرآن).

     كذلك الفيلسوف الروحاني الفرنسي المشهور رينيه غينون، الذي نشأ على الكاثوليكية في فرنسا، ثم انتقل إلى القاهرة حيث أعلن إسلامه فيها سنة (1930م) وتسمى عبد الواحد يحيى غينون، وتزوج مسلمة، وبقي في مصر حتى توفي بها سنة (1951م)([30])، وقد أحدث إسلام غينون ضجة في أوروبا وأمريكا، وكان سببًا لدخول الكثيرين في الإسلام([31])، وكان قد ألف العديد من الكتب منها (أزمة العالم الحديث) (الثقافة الإسلامية وأثرها في الغرب) كما أصدر مجلة (المعرفة).

     ومن أقواله الخالدة: «أردت أن أعتصم بنص لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلم أجد بعد دراسة عميقة سوى القرآن»([32])، قال تعالى: "وإنه لكتاب عزيز . لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد . ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم" [فصلت: 41ــ 43]. وقد قال الكاتب الفرنسي المشهور أندريه جيد: «لقد علمتني كتب غينون (جيون) الكثير، وإن آراءه لا تنتقض».

     وهنيئاً لمن دعا إلى الله على بصيرة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا» رواه مسلم، وقال: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم» متفق عليه، وهذا كله امتثالاً للقرآن العظيم "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين" [فصلت: 33].

     وقد ألف المفكر الفرنسي الشهير رجاء جارودي مؤلفات عديدة في تجلية بعض حقائق الإسلام التي حاول من قبله طمسها، ومن مؤلفاته في ذلك (الإسلام دين المستقبل)، (وعود الإسلام)، (نداء إلى الأحياء).

     أما المستشرق الدكتور والدبلوماسي الألماني مراد هوفمان فقد اعتنق الإسلام سنة (1980م) بعد دراسة متأنية موضوعية علمية متجردة فقاده ذلك إلى الدخول فيه. وقد ألف مجموعة من الكتب التي كان لها صدى قوي لدى النخب الأوروبية، ومنها (يوميات ألماني مسلم)، (الإسلام كبديل)، (الإسلام عام 2000) وغيرها([32]).

     وقال البروفيسور في الدراسات الإسلامية في مدرسة اللغات الشرقية في لندن توماس أرنولد: «إن دخول الإسلام في المجتمع العربي الوثني لا يدل على القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب وإنما كان انقلابًا كاملاً لمثل الحياة»([33]).

     وقالت المستشرقة الإيطالية لورا فاغليري مثبةً نبوة محمد عليه الصلاة والسلام: «وأزعج هذا التحول السياسي والديني العميق طائفة من الناس... ولكن كثيرًا منهم كانوا عميانًا، وكانوا يغمضون أعينهم عمدًا... إنهم لم يستطيعوا أن يدركوا أن القوة الإلهية وحدها كان في ميسورها أن تقدم الحافز الأول لمثل هذه الحركة الواسعة، إنهم لم يريدوا أن يعتقدوا أن حكمة الله وحدها كانت مسؤولة عن رسالة محمد آخر الأنبياء الكبار حملة الشرائع، والذي ختم سلسلتهم إلى الأبد»([34]).

     لقد نافحت هذه الإيطالية الحرة عن الإسلام، رغم أنها لم تعتنقه ــ ظاهرًا على الأقل ــ وألّفت في الثناء عليه المؤلفات المشكورة، وسبب ذلك أنها قد اطلعت على حقائقه الناصعة في زمن صار أكثر بني قومها يزيفون حقائقه ويشوهونها ويفترون عليه الأكاذيب، ومضت تقول بكل شجاعة أدبية تليق بمفكرة ومؤرخة: «فعندئذ يتعين علينا أن نرفض الاتهام؛ لأن في استطاعتنا أن نقيم الدليل استنادًا إلى القرآن والنبي نفسه على أن ذلك بهتان كامل»([35])

     ولعل سبب عزوف بعض هؤلاء عن اعتناق الدين الحق أن هناك طائفة من الفلاسفة تؤمن بتجريد الحقيقة لذاتها وتبقي هذه القناعات في حيز العقل دون أن تصلها بالمشاعر، وإلا فلو وصلت لكانت ثمرة ذلك اعتناق الحقيقة، وهي هنا الإسلام، كما مر معنا مع بعض أكابرهم لما أطلقوا مشاعرهم في مراكب حقائقهم بعد أن تأكدوا من سلامة تلك الحقائق وبراءتها من الزيف.

     وقال السويسري روجيه دوباسكويه الذي اعتنق الإسلام مع زوجته الهولندية في كتابه (إظهار الإسلام): «يساعد الإسلام المرء على العيش بدون أن يفتقد نفسه، وتقدم الحلقة النبوية الخاتمة وسائل مقاومة الفوضى الحاضرة، يخاطب الإسلام الإنسان معرفًا إياه منزلته بين الخلق وأمام الله»([36]).

     وقال مارسيل بوازار: «لم ينس محمد قط وهو يؤدي دور الرجل الدولة رسالته السماوية نبيًا ومبشرًا، كما لم يتوان لحظة واحدة عن إظهار ورعه وتقاه»([37]). ويُذكر أن مارسيل قد أعلن إسلامه بعد نشر كتابه هذا، وقد عدّه مراد هوفمان من المسلمين كما في كتابه (الإسلام في القرن العشرين).

     أما الأديب العالمي الروسي المشهور ليو تولستوي فقد كان حاضرًا واعيًا حينما قال: «إنما محمد شهاب قد أضاء العالم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء... أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد، الذي اختاره الله لتكون آخر الرسالات على يديه وقلبه وعقله، ليكون هو أيضًا آخر الأنبياء حيث لم ولن يأتي بعده أحد»([38]).

وقال سليم قبعين ــ وهو نصراني لبناني منصف ــ مترجم كتاب تولستوي المذكور في مقدمته له: «بعد إطلاعي على رسالة الأديب الروسي عن الإسلام وعن النبي محمد، هالني ما جاء فيه من الحقائق الباهرة، فدفعتني الغيرة على الحق إلى ترجمتها إلى العربية»([39]).

     وقال الزعيم الهندي الشهير المهاتما غاندي: «إن نبي الإسلام هو الذي قادني إلى المناداة بتحرير الهند، العظيم الخالد محمد بن عبد الله رسول الإسلام، كان قادرًا على السيطرة على العالم كله، ومع ذلك ترك نفسه إنسانًا بالإسلام، ولم تستطع شهوة الشيطان أن تحوم حوله، فعاش نبي الإسلام رسولاً بشرًا عاديًا أمام إخوانه من الناس كواحد منهم رغم أنه اصطفاء إلهي».

     وتأمل في هذا السياق الكلام النفيس للإمام ابن حزم رحمه الله إذ قال: «... وأيضًا فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله حقًا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى.. ثم أوطأه الله رقاب العرب كلهم فلم تتغير نفسه إلى أن مات، ودرعه مرهونة في أصواع شعير لقوت أهله، ولم يبت قط في ملكه درهم ولا دينار، وكان يأكل على الأرض ما وجد، ويخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه، ويؤثر على نفسه، وقُتل رجل من أفاضل أصحابه ــ وفقد مثله يهدّ عسكرًا ــ قتل بين أظهر أعدائه من اليهود فلم يتسبب إلى أذى أعدائه بذلك، إذ لم يوجب ربه تعالى له ذلك ولم ينقصهم بذلك دمًا ولا مالاً بل وداه من عند نفسه بمئة ناقة، وهو محتاج في تلك الحال إلى بعير واحد يتقوى به، وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك ولا صاحب مال فصحّ يقينًا أنه متبع لأمر ربه، وتدبر حاله لـمّا لم يحل الخلافة إلى عمه ولا ابن عمه بل فوّض الأمر لبعيد النسب منه، ثم لم يورث أهله وولده مالاً...» ([40]).

     وقال المستشرق الكندي الشهير زويمر في كتابه (الشرق وعاداته): «لا يجوز أن ننسب إلى محمد ما ينافي صفات الصدق والعظمة، فتاريخه يشهد له بهذا».

     وقال المستشرق الألماني برتلي سانت هيلر في كتابه (الشرقيون وعاداتهم): «إن في محمد صفتين من أجلّ صفات النفس البشرية هي العدالة والرحمة».

     وقال سنرستن آسوجي أستاذ اللغات السامية في كتابه (تاريخ حياة محمد): «إننا لم ننصف محمدًا إذا أنكرنا ما هو عليه من جميل الصفات وحميد المزايا، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصرًا على مبدئه حتى أتاه النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ»([41]).

     وقال الكونت كاتيا في كتابه (تاريخ الإسلام): «أليس الرسول محمد جديرًا بأن نقدم للعالم سيرته حتى لا يطمسها الحاقدون عليه وعلى دعوته التي جاء بها لينشر في العالم الحب والسلام؟».

     وقال المؤرخ كريستوفر دارسون في كتابه (قواعد الحركة في تاريخ العالم): «إن الأوضاع العالمية تغيرت تغيرًا مفاجئًا بفعل فرد واحد ظهر في التاريخ هو محمد».

     وقال المستشرق الأسباني جان ليك في كتابه (العرب): «لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء: 107] كان محمد رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق»

     فتأمل هذا الكلام الرقيق والحب الصادر من رجل لم يدخل دينه فكيف بأتباعه؟!

    وقال المستشرق هيل في كتابه (حضارة العرب): «لقد أخرج محمد للوجود أمة ومكن لعبادة الله في الأرض، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية».

     أما الشاعر والفيلسوف الفرنسي فولتير وصاحب حركة الاستنارة الفرنسية في القرن الثامن عشر فقال: «إن دين الإسلام يستحق الإعجاب والتقدير... ولقد قام الرسول بأعظم دور يمكن للإنسان أن يقوم به على الأرض.. إن أقل ما يقال عن محمد إنه قد جاء بكتاب وجاهد، والإسلام لم يتغير قط».

     وقد يصطدم القارئ العزيز بأقوال لفولتير تخالف كلامه هنا والسبب أن اطلاع فولتير في أول أمره على الإسلام كان قاصرًا حيث قاسه على بقية الأديان المحرفة إضافة إلى توجيه الثقافة السائدة في أوروبا، لعداء الإسلام، فكان يذم الإسلام ونبيه عام (1742م) ثم توسع اطلاعه على معدن الإسلام وجماله الأخّاذ وقواعده الباهرة فكتب في عام (1751م) كتابه (أخلاق الأمم وروحها) أثنى فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بالمفكر والحكيم والسياسي العميق وصاحب الدين العقلاني، ووصف الإسلام بالتسامح، ثم ألف عام (1765م) كتابًا في العادات، حيث مدح فيه الإسلام بصورة أكبر وأشاد فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم وقال فيه: «إن محمدًا من أعظم مشرعي العالم» والعبرة بآخر كلام المؤلفين وكتبهم لا بدايات أحكامهم.

     وقال الفرنسي كليمان هوارت: «لم يكن محمد نبيًا عاديًا، بل استحق بجدارة أن يكون خاتم الأنبياء، لأنه قابل كل الصعاب التي قابلت كل الأنبياء الذين سبقوه من بني قومه... إنه نبي ليس عاديًا فهو يقسم أنه لو سرقت ابنته فاطمة لقطع يدها، ولو أن المسلمين اتـخذوا رسولهم قدوة في نشر الدعوة لأصبح العالم بأسره مسلمًا».

     وقال برتراند راسل الفيلسوف البريطاني والحاصل على جائزة نوبل للسلام عام (1950م): «لقد قرأت عن الإسلام ونبي الإسلام، فوجدت أنه دين جاء ليصبح دين العالم والإنسانية، فالتعاليم التي جاء بها محمد والتي حفل بها كتابه، ما زلنا نبحث ونتعلق بذرات منها، وننال أعلى الجوائز من أجلها.. لقد كانت وما زالت ديانة محمد توحيدًا سهلاً، ولم يزعم لنفسه أنه إله، ولا زعم أتباعه له هذه الطبيعة الإلهية نيابة عنه، لقد كانت الأخلاق الإسلامية منذ محمد وحتى اليوم وغدًا هي المفتاح الحقيقي للإنسان الذي يحلم بأن يكون لوجوده معنى».

     وقال الإسكتلندي السير ويليم مور في كتابه (سيرة النبي والتاريخ الإسلامي): «لقد امتاز محمد بوضوح كلامه، وسهولة دينه، ولقد أتم من الأعمال ما لم ولن يستطيعه مصلح إجتماعي، فقد أحيا الأخلاق، وحث على الفضيلة، وهذا حال الأنبياء والرسل حينما يربيهم الله ويرسلهم برسالة حق، كما أرسل محمدًا بالإسلام الحقيقة والحق ليختم الرسالات، وأيضًا ليختم الأنبياء»([42]).

     وقال الفيلسوف الفرنسي المشهور جان جاك روسو ــ المتأثر بنور الإسلام وأدبيات المسلمين ــ: «لم ير العالم حتى اليوم رجلاً استطاع أن يحول العقول والقلوب من عبادة الأصنام إلى عبادة الإله الواحد إلا محمدًا، لقد اختاره الله بعناية كي يحمل الرسالة... ولو أن محمدًا عاش مدة أطول مما عاش لأصبح الإسلام ورسوله سادة العالم».

     قلت: وتأمل حاله عليه الصلوات والتسليم لما ذهب لدعوة أهل الطائف بعد إيذاء أهل مكة له، ولم يستجب له في رحلته الشاقة تلك بكل آلامها النفسية والبدنية والكلام الشديد الذي يفل عزيمة أحزم وأجلد الرجال وأشدهم عزائم، والقذف بالأحجار التي أدمت عقبيه الشريفين، مع ذلك فلم يقنط ولم ييأس بل فرح واستبشر بهداية خادم مملوك نصراني على يديه، اسمه عداس الذي قدّم له طبقًا من العنب بأمر سيده، فلما رفع ثمرة منها إلى فيه ذكر اسم ربه وقال: «بسم الله» فتعجب ذلك الخادم الكتابي قائلاً: «وأين من يفعل هذا هنا؟!» لأن ذكر الله عند الطعام ليس عادة وثنية بل نبوية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أين أنت؟» قال: من نينوى، فقال: «بلد العبد الصالح يونس بن متى ــ يونان ــ» فاندهش عداس لمعرفة هذا الرجل بتفاصيل أخبار الأنبياء وأحوالهم وتعاليمهم، فأزال النبي صلى الله عليه وسلم عجبه وأذهب دهشته بقوله: «هو نبي وأنا نبي» فانطرح المسيحي الطاهر تحت قدميه يبكي متأثرًا بجلال الموقف واتباعًا لدين نبيه ورسالته الخالدة.

     وقال المستشرق الأمريكي ذائع الصيت بروكلمان : «محمد لم تشبه شائبة من قريب أو من بعيد فقد كان فوق مستوى الشبهات». ولبروكلمان عدة كتب في تاريخ وآثار العرب وآدابهم.

     وقال البروفيسور الفرنسي موريس بوكاي ــ وقد أسلم ــ: «لو كان قائل القرآن إنسانًا فكيف يستطيع في القرن السابع أن يكتب حقائق لا تنسب إلى عصره؟!... طبعًا إنما نجحت إنجازات الحضارة الإسلامية العظيمة بسبب امتثال الأوامر المفروضة على المسلمين منذ فجر الإسلام»([43]).

     وقال الطبيب البلجيكي الدكتور ياسين باينز: «كنت قبل الإسلام أرى أنه لابد من دين، وهذا الدين لابد أن يكون شاملاً لكل تصرفات الإنسان، فلا يمكن أن يكون الدين الصحيح لساعات قليلة من حياة الإنسان، ووجدت بغيتي في الإسلام فاعتنقته»([44]).

     وقال المفكر البريطاني لين بول: «إن محمدًا كان يتصف بكثير من الصفات، كاللطف والشجاعة وكرم الأخلاق، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تطبعه هذه الصفات في نفسه...» ثم ذكر أمثلة لصفاته الجميلة صلى الله عليه وسلم ([45]).

     وقال المستشرق الأمريكي واشنجتون إيرفنج: «كانت تصرفات الرسول في أعقاب فتح مكة تدل على أنه نبي مرسل، لا على أنه قائد مظفر... حين توج انتصاره بالرحمة والعفو»([46]). قلت: وكم وقف النبلاء أمام عظمة ذلك الموقف إجلالاً وإعظاماً.

     وقال المؤرخ البلجيكي جورج سارتون: «وخلاصة القول... أنه لم يتم لنبي من قبل ولا من بعد أن ينتصر انتصارًا تامًا كانتصار محمد»([47]).

     إنها شريعة سماوية بحق، فقد حثت الإنسان على عمارة الدنيا والآخرة، فأرشدت للعمل للآخرة وعدم نسيان الدنيا، ليست برهبانية ولا مادية، أما في المسيحية فالرهبانية والانقطاع التام عن الدنيا والتبتل صفات تعد من الفضائل، مع أنها في حقيقتها تطبيق عملي للتصور السلبي الخاطئ الناشئ عن الجهل بطبيعة الإنسان ومهمته في الوجود، قال تعالى في ذمها: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" [الحديد: 27]، فهي دخيلة على دين المسيح عليه السلام، ولدخول الرهبانية على المسيحية أسباب:

1ــ عقيدة الخطيئة الأزلية الموروثة.

2ــ ردة الفعل المتطرفة للمادية اليهودية الجشعة المتهالكة على المادة, والفلسفة الأبيقورية الإباحية الرومانية النهمة المتهتكة.

3ــ الفلسفات والوثنيات التهربية القانطة، كالفلسفة الرواقية القائمة على التأمل والاستغراق في عالم ما وراء المادة، والبوذية القائمة على جلد الذات والخروج من سلطة الجسد وشهوات النفس.

4ــ الأوضاع الاجتماعية القاسية، كالهرب من خدمة الأسياد والنبلاء في زمن الإقطاع والعبودية وغير ذلك من الأسباب.

     وقد ترتب على ذلك قيام الرهبانية كشعيرة كبرى معترف بها في كل الكنائس المسيحية، وقد وضعت للرهبانية نظامًا وقانونًا وشروطًا لابد من تحققها في الراهب ومنها:

1ــ العزوبة.

2ــ التجرد الكامل من الدنيا.

ـ العبادة المتواصلة بلا انقطاع ولا راحة إلا للنوم، فإن قصّر في ذلك فإن السياط تلهب ظهره، فهناك ست جلدات إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة، أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الرباني، واثنا عشر سوطًا إذا نسي أن يدعو الله قبل الطعام، وخمسون جلدة إذا تأخر عن الصلاة، ومئة لمن يشترك في نزاع.. وهكذا، حتى فاقوا الآصار والأغلال المشهورة في الديانة اليهودية، بينما في الإسلام "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" [البقرة: 286] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تلاوة هذه الآية: «قال الله: قد فعلت» رواه البخاري. وانظر تفاصيل العذاب الرهباني وأسواطه في (قصة الحضارة) ول ديورانت ([48]).

4ــ التعذيب الجنوني كما فعل الراهب ماكاريوس حين نام ستة أشهر في مستنقع ليتعرض جسمه العاري للذباب السام، وكالذي يحمل الحديد دائمًا عقوبة لنفسه، ومنهم من يمشي على يديه ورجليه كالأنعام إذلالاً لنفسه، وكان كثير منهم يسكنون مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، ويأكلون الحشيش، والأغرب من ذلك أنهم كانوا يعدّون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح! ويتأثمون من غسل الأعضاء! قال الراهب اتهينس: «إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب إبراهام لم يمس وجهه ولا رجليه الماء خمسين سنة، وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمان متلهفًا: واأسفاه لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حرامًا فإذا بنا الآن ندخل الحمامات»!! فجزى الله المسلمين خيرًا على تعليمهم النظافة لهؤلاء ــ وسيأتي لاحقًا بإذن الله المزيد في هذا الموضوع.

     ختامًا أقول: قد أوردت لك أكثر من أربعين شهادة([49]) من رجال الفكر وأساطين العلم وفحول الفلسفة وأحرار السياسة، من كل زوايا الأرض كلهم اتفقوا على أن هذا النبي العظيم فريد بني آدم وسيد بني الإنسان وجلّهم قد شهدوا له بالرسالة وبعضهم قد دخل في جملة أتباعها، فكيف لو سمعت بأقوال أتباعه الذين ولدوا في ظل دينه وتشربوا حبه وحب سنته مع حليب أمهاتهم مُذْ نعومة أظفارهم؟! وجميعهم يشهد أن هذا الدين حق ورسوله حق وختمه للنبوة حق وبتحتّم اتباعه على كل أحد "ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة" [الأنفال: 42].

    والحمد لله أولاً وآخراً على نعمة الإسلام وكتابه ونبيّه, وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

إبراهيم الدميجي

5/ 11/ 1433

@aldumaiji

http://aldumaiji.blogspot.com/

....................................

([1]) رواه البخاري.

([2])  طبقات ابن سعد (1/ 158)، سيرة ابن إسحاق (ص29ــ 33).

([3]) طبقات ابن سعد (1/ 164).

([4]) أي جنس اليهود.

([5]) السابق (1/ 164).

([6]) البخاري (7)، مسلم (1773).

([7]) فكلاهما من بني عبد مناف.

([8]) جملة «وكان ابن الناظور» وما بعدها من كلام الإمام الزهري، وقد بين أبو نعيم في (دلائل النبوة) أن الزهري قال: لقيته ــ أي ابن الناظور ــ بدمشق زمن عبد الملك بن مروان. قال ابن حجر: وأظنه لم يتحمل عنه ذلك ــ أي يسمعه منه ــ إلا بعد أن أسلم، ووصفه بالأسقف لينبه أنه كان مطلعًا على أسرارهم عالمًا بحقائق أخبارهم. الفتح (1/ 56).

([9]) الدسكرة هي القصر.

([10]) المستدرك (3/ 700) (6547)، طبقات ابن سعد (1/ 111).

([11]) وسنتوسع في أدلة ذلك في مقال لاحق بإذن الله تعالى.

([12]) مسند أحمد (5/ 441ــ 444)، طبقات ابن سعد (4/ 75ــ 80).

([13]) دلائل النبوة، الحافظ البيهقي (3/ 361).

([14]) وقد مضى بعضه في مقالات سابقة.

([15]) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (1/ 317).

([16]) انظر: الإسلام ورسوله، أحمد حامد (ص13ــ 15).

([17]) حضارة العرب، غوستاف لوبون (ص67).

([18]) دار مادرس للنشر (1932م).

([19]) تهذيب سيرة ابن هشام، عبد السلام هارون (ص253).

([20]) العظماء الخالدون مئة، مايكل هارت، (ص31).

([21]) نبي الشرق، ديوان شاند شارما (ص122).

([22]) لمحات من تاريخ العالم، جواهر لال نهرو (ص27)، ونهرو هو أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال.

([23]) تاريخ التطور الفكري في أوروبا، جون وليم درابر.

([24]) نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الفكر الاستشراقي المعاصر، د. لخضر شايب (ص95، 96).

([25]) الطبعة (11).

([26]) وقد جمعت وطُبعت في كتاب بنفس العنوان. وانظر (ص58ــ 60) من كتابه المذكور.

([27]) السابق (ص263 وما بعدها)، وقد اقتصرنا منها على بعض الشواهد.

([28]) عن (الاختبار) ديدات، (ص185).

([29]) انظر: غوته، صديق شيبوب.

([30]) محمد في الفكر الاستشراقي المعاصر، د. لخضر شايب (ص170ــ 178)

([31]) الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل (ص16).

([32]) وحاليًا يعيش في تركيا.

([33]) الدعوة إلى الإسلام، د. توماس أرنولد (ص61، 62).

([34]) دفاع عن الإسلام، لورا فيشيا فاغليري، (ص28).

([35]) السابق (ص29).

([36]) إظهار الإسلام، روجيه دوباسكويه (ص109)، وله كتاب (تحدي العصر).

([37]) إنسانية الإسلام، مارسيل بوازار (ص46)

([38]) حِكَمُ النبي محمد، ليو تولستوي، ترجمة سليم قبعين.

([39]) السابق، المقدمة.

([40]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم (ص231، 232).

([41]) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ (ص168)، العلمانية، د. الحوالي (ص85ــ 95). ([42]) انظر: حياة محمد، وليم موير، موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي (ص578، 579).

([43]) القرآن الكريم والعلم المعاصر، د. موريس بوكاي (ص123)، وقد تقدم شيء من أقواله.

([44]) عن: حوارات مع مسلمين أوروبيين، د. عبد الله الأهدل، (ص106).

([45]) رسالة في تاريخ العرب، لين بول، نقلاً عن: روح الدين الإسلامي، عفيف عبد الفتاح طبارة (ص438).

([46]) حياة محمد، وشانجتون إيرفنج (ص72).

([47]) الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط، جورج سارتون (ص28ــ 30).

([48]) قصة الحضارة (14/ 365).

([49]) لتوثيق ما مر مع زيادة أمثلة في الأشخاص والشهادات ينظر: آفاق جديدة للدعوة، ومقدمات العلوم والمناهج، كلاهما لأنور الجندي، عظماء ومفكرون يعتنقون الإسلام، محمد طماش، الإسلام في قفص الاتهام، د.شوقي أبو خليل، حوارات مع مسلمين أوروبيين، د.عبد الله الأهدل، أمريكا والإسلام تعايش أم تصادم؟ د.عبد القادر طاش، القرآن الكريم من منظور غربي، د.عماد الدين خليل، أوروبة والإسلام، د.عبد الحليم محمود، التنصير والاستعمار، عبد العزيز الكحلوت، الإسلام، د.أحمد شلبي، كيف أسلمت، هالة اللولو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق