بشائر
الإسلام
ورسالة
النبي عليه الصلاة والسلام
مقدمة
لا يزال فجرُ الإسلام وضُحاه بين أحداث التاريخ الكبرى عديمَيِ
النَّظِير من وجهتين: وجهة النشوء، ووجهة الارتقاء.
فأكبر أعداء الإسلام لا يستطيع أن يكتم دهشته من تلك البداية
المُؤْيِسَةِ لفجر الإسلام،كانت بدايته بفرد، ثم بأفراد يُعَدُّون على الأصابع،
استجابوا لدعوته، وآمنوا في السر برسالته، ما انفكوا طيلة عشرة أعوام: يحملون
الأذى، ويصيبهم المنكر، ويمسهم أشد البلاء في سبيل الله، حتى فر أكثرهم هربًا
بدينهم، ونجاة بأنفسهم إلى أبعد الأقطار.
وبمِثْلِ تلك البداية المُؤْيِسَةِ التي بدأ بها رسول الله عهد
رسالته، بدأ العرب المسلمون من بعده عهدَ فتوحهم في سبيل دعوتهم إلى العالم فيما
وراء الجزيرة،وكما نصر الله نبيَّه، فدانت له في حياته العرب كافة، وأظهر دينه على
الأديان جميعًا: كذلك أيَّد بالنصر خلفاءَه من بعده، فدانت لهم الأرض من المشرق
إلى المغرب في أقل من ثلث قرن!
هذا، وكلما أمعن أعداء الإسلام طعنًا في صفات المسلمين، ودين
المسلمين، ونبي المسلمين - كان ذلك أدعى إلى الدهشة من جني ذلك النبت الضئيل الذي
يعيبون،وما هو في الحق إلا دوحة أصلها ثابت وفرعها في السماء، آتت أكلها بإذن
ربها، وامتدت جذورها في الأرض، فازدادت على الأيام نماءً وقوة، شأن البذرة الصالحة
في التربة الخصبة،ثم شاء الله أن تجفو السماء، وتنضب الأرض، فلا يظل من تلك الدوحة
السامقة، المثمرة المورقة، سوى الجذور الضاربة في أعماق الأرض، والجذع القائم تعبث
به فأس الحطاب،ولعل الله قد أذن لذلك الجذع القائم من تلك الدوحة أن يحيا ويخضر،
ويورق ويثمر، فيعود نضرًا كما كان: يمدُّ الناس بالطيبات، ويبعث فيهم بهجة الحياة.
وإذا كان إعجاب المسلم المؤمن بتلك الصفحة المشرقة من التاريخ
صادرًا، في الأكثر، عن إيمان وتسليم - فإعجاب كل مفكر حرٍّ بتلك الصفحة إنما يصدر
عن اقتناع بجلال الواقع.
أمَّا والمسلمون اليوم أصبحوا هدفًا لنصال الطاعنين في دينهم:
يلتمسون فيه الآفات، ويحيطونه بالشبهات - فمن الصلاح أن يتدارسوا بمناسبة الذكرى
المباركة لمولده عليه الصلاة والسلام هذه الصفحة المجيدة من تاريخهم، نشوءًا
وارتقاء، عن إيمان وتسليم صادرين عن (إدراك) صحيح
لجلال هذا الواقع، فيأخذوا من نورها قبسًا يهديهم سواء السبيل، ويكشف عنهم وحشة
الطريق.
وها نحن أولاء نبدأ فنستعرض ما أحاط الخطوة الأولى من نشوء الإسلام
وظهور دعوته من الظروف والأحوال التي مهَّدت له، أو وقَفَت في سبيله.
كلمة في نشوء الأديان:
من سنن الله في خلقه أن ربط الأسباب بمسبباتها، والنتائج بمقدماتها،
فلا يحدث حادث إلا في أوانه، بدواعٍ تتهيأ له في زمانه ومكانه،فمن الملاحظات
الثابتة في تاريخ الأديان: أن ظهور دين من الأديان كان دائمًا يُسبَق بأشراط
وعلامات، أو قُلْ: بظروف وأحوال اجتماعية تستلزم وتبرر ظهور ذلك الدين الجديد الذي
يكون من شأنه قبل كل شيء أن يهدم صرح الباطل القائم ليقيم مكانه صرحًا من الحق
ثابت الدعائم،أمَّا إنها ظروف وأحوال (تستلزم) ظهور
ذلك الدين، فلِما يطرأ على أمر الناس من فساد واضطراب لا يُصلحه إلا نبي مؤيد بوحي
الله،وأمَّا إنها (تبرر) ظهور
ذلك الدين، فلأن الدين عند الله هو الإسلام، وإنما تقدمت الأنبياءُ والرسل صاحبَ
الرسالة عليه أفضل الصلاة والسلام تمهيدًا بين يديه، تبعًا لسنة التدرج التي فرضها
الله في خلقه،ولو لم يتمهد الطريق للإسلام بمن تقدم من الأنبياء والرسل، لشقَّ على
الناس حملُ تكاليفه، والعمل بأوامره التي لا تخلو من شدة وصرامة، وهم في غمرة
الوثنية وظلمات الجهل.
ففساد العالم هو في كل زمان داعيةٌ لظهور علائم النقمة والغضب من
الخالق على خَلْقه؛ ليأخذهم ببعض ذنوبهم، ولكن من بعد الإنذار والإعذار:
﴿ وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾
[الإسراء: 15].
وقد كان انحراف الناس على كرِّ الأيام وتوالي العصور عن دين موسى
والمسيح مع تهيُّئِهم التهيُّؤَ الكافي لتفهُّم مبادئ الإسلام والعمل بها - داعيًا
لمجيء خاتم الأنبياء عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ليتمم للناس دينهم الذي ارتضى الله
لهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
كذلك لم يكن مجيء الإسلام في العرب مصادفة فجائية تنوءُ بعبئها كواهل
العرب ومواهب العرب، بل كان أشبهَ بالثمرة الجنية في أوانها، كلُّ ما يتقدمها إنما
هو تمهيدٌ مقصود لبروزها، وإعدادٌ مقصود لنُضجها.
أما تلك الجفوة والمقاومة التي لقيها الإسلام في مهده، فهي أشبهُ
بإنكار صاحب الوليمة لضيفه المجهول، فما أن تعارفا حتى تصافحا، وحلَّ الصفاءُ مكان
الجفاء.
هذه الظروف والأحوال الاجتماعية التي تقدَّمت بين يدي الإسلام، والتي
هيأت العربَ لحمل رسالة الإسلام، والتي حددت خصائص الإسلام - تنحصر فيما يلي:
أ- حاجة
العالم إلى الإصلاح.
ب- خصائص
الأمة المختارة لهذا الإصلاح.
ج- إعداد
العرب لحمل رسالة الإصلاح.
د- الدهشة
الأولى لظهور الإسلام.
وإليك بيان كل مرحلة من هذه المراحل في شيء من التفصيل المجمل.
♦ ♦ ♦
(1) حاجة العالم إلى الإصلاح:
مرجع الأديان الثلاثة الكبرى هو ملة إبراهيم الخليل عليه السلام،
وأساسها: التوحيد والبعث والنبوة، على هذا الأساس قامت الشرائع السماوية، مضيفة
إلى ذلك، على سنة التدريج، من الأوامر والنواهي ما فيه صلاحُ الناس وسعادتهم،
مناسبًا لمداركهم وعقولهم.
ولقد أحاطت برسالة موسى عليه السلام أحوالٌ خاصة، اقتضت نزول التوراة
بتحريم كثير من الطيبات على بني إسرائيل، تأديبًا لهم، وغضبًا من الله عليهم، حتى
يتوبوا وينوبوا إلى أمر الله،فلم يكن مجيء المسيح عليه السلام بعد ذلك إلا
امتحانًا جديدًا لإيمانهم،وإيذانًا برضا الله عن المؤمنين منهم.
وقد كان من أمرهم معه ما هو معروف حتى رفعه الله إليه، فمنهم من كفر،
ومنهم من آمن، فأما الذين كفروا فضُربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله
إلى يوم القيامة،وأما الذين آمنوا فقد أحَلَّ الله لهم كثيرًا مما حرم عليهم،
وجعلهم فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.
على أن المسيحية لم تلبث كذلك أن تباعدت عن أصولها المنزلة؛ لأسباب،
أهمها:
1. ارتفاع المسيح عليه السلام فجأة قبل تمام رسالته وتحرير بيانها للناس
على وجه يكفل لتعاليمِه البقاءَ من بعده في نجوى من التحريف.
2. عدم اجتماع الحواريين الذين أذاعوا تعاليمه من بعده على نصٍّ واحد من
الإنجيل كما نطق به المسيح عليه السلام، وأدلى به إليهم.
3. تأثُّر الحواريين بعد ذلك ومَن أخذ عنهم، في شرح الإنجيل والاستنباط
منه، بالإسرائيليات؛ لقُرب عهدهم بالذي كانوا عليه من دينهم.
4. تحوُّل نظر الناس إلى أهم معجزات
المسيح: ولادته، ونزول المائدة عليه، ورفعه، من معجزات أراد الله بها تأييد
رسالته، وقطعَ الحجة على خَلْقه - إلى فتنة حادَتْ بهم إلى فكرة التثليث والتأليه،
مما برَّأ الله منه شريعته.
وكما خالف بنو إسرائيل شريعة موسى حين دعَتْهم إلى القتال في سبيل
الله وقالوا: ﴿ اذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾
[المائدة: 24]، وزعموا مِن بعده أن العُزير ابن الله، كذلك نسي أتباع المسيح شِرعة
التسامح والرحمة، وقالوا: المسيح ابن الله.
ولم تمضِ ستة قرون على رسول الرحمة، حتى كانت الأرضُ أحوجَ ما تكون
إلى رسولِ رحمةٍ، يتمِّم ما جاء به موسى والمسيح، ويَهدي الناس إلى الحق فيما
اختلفوا فيه.
فكان مِن أهم الأسباب التي استوجبت مجيء خاتم الأنبياء عليه الصلاة
والسلام بشريعة الإسلام: الأسباب الثلاثة التالية:
1. أن تقدُّمَ المسيحية واليهودية وانتشارهما في أقطار العالم وقف عند
حد محدودٍ لم يتجاوز ممالك أوربا وحوضَيِ البحر الأبيض والبحر الأحمر، وبقِيَت
أممٌ عظيمة - كالهند والصين وفارس - ذات حضارة ومدنية لا ترى فيهما فرقًا جوهريًّا
يدعوها لترك أديانها التي يشبِه بعضُها المسيحيةَ من عدة وجوه، وتمتاز عنها في
فلسفته من وجوه كثيرة.
2. اشتداد الخلاف والنزاع بين أتباع الشريعتين السابقتين، وكذا بين
المذاهب النصرانية نفسِها، حول ذات المسيح وولادته ورفعه أو (صَلْبه)، وحاجة الناس
إلى دِين يوفِّق بينهما على الحق البيِّن.
3. تمام القصد من تمهد حبل العالَم لقَبول فكرة التوحيد الخالص، وإساغة
مبادئ الإسلام، بتقديم شرعيتي موسى وعيسى عليهما السلام، مع اقتران ذلك بإرادة
الله تعالى إتمامَ دِينِه الحقِّ الذي اختاره لخَلْقِه.
فبينما كانت الحروب الطاحنة تُفني عشرات الألوف من البشر على ضفاف
البحر الأبيض، وبينما كانت مئات الألوف من الخلائق تُسامُ الخسف والعذابَ وذلَّ
العبودية في أوربا وآسيا وإفريقية تحت حكم الإقطاع، وبينما كان الفكر البشري
يرسُفُ في أثقل الأغلال من التضييق والظلم والاستبداد والهمجية، بينما كان العالم
يتخبَّط في تلك الظلمة الحالكة المهلكة - شاء الله أن يبعث رسوله ﴿ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾
[الأعراف: 157]، ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه بأمره، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
هنا يحق للقارئ أن يسأل:
ولِمَ خص الله العرب فوضع فيهم تمام رسالته، واختار منهم أفضل رسله
وخاتم أنبيائه؟
والجواب: أن رسالة الإسلام، وهي خاتمة الأديان (إلى الناس كافة)،
كانت تتطلب أمة ذات مزايا خاصة تؤهلها لتفهَم روح الإسلام، وإيصال دعوته إلى أبعد
الأقوام: مصونة مطهَّرة من الشوائب والأدران.
وتلك كانت أمة العرب حين بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما
ماهية هذه الخصائص وكيف توفرت في العرب فإليك بيانها:
♦ ♦ ♦
(ب) خصائص الأمة المختارة لهذا الإصلاح:
أجملنا فيما سبق الدواعي والأسباب التي مهدت لظهور الإسلام، وهنا
نحاول أن نتبين الخصائص التي كان يجب توفرها في تلك الأمة المختارة لتبليغ رسالة
الإسلام.
قلنا: إن كلًّا من الشريعتين السابقتين للإسلام بعُدَتَا عن أساس
الحق الذي جاءت به الرسل؛ بسبب ما دخل التوراةَ والإنجيل من التحريف،وقد دعا موسى
بني إسرائيل ليقاتلوا في سبيل الله، فيرفَعَ عنهم ربُّهم لعنةَ الذُّلِّ والمسكنة،
فما أطاعوه، وجاء المسيح يبشِّر بالإخاء والرحمة، فأعرَضوا عنه وأردوا أن يقتلوه.
فالإسلام باعتباره خاتمة الأديان للناس كافة، كان لزامًا أن يقام
صرحه على أساس قوي يثبت على عوادي الأيام، ويساير تقلبات الأحوال والأزمان، وأن
يحاط ويزوَّد بجميع الوسائل والعوامل التي تدرأ عنه ما طرأ عليهما من وجوه النقص
والتحريف، وهذا يتطلب ظهوره قبل كل شيء في أمة خلصت من ذلة بني إسرائيل، ومن قساوة
الروم معًا، في أمة وسط: تجمع البسالةَ والإقدام إلى الشهامة والنُّبل والحزم وشدة
البأس، إلى التسامح واللِّين، وتكون من الذكاء والفطنة وسلامة الفطرة، وقابلية
الخضوع للحق، بحيث تعي تعاليم الإسلام، وتحتفظ بها سليمة مبرَّأة: ببصيرة نيرة،
وحافظة قوية، وعقيدة راسخة لا تخالجها شبهة، وسيف لا يصدع إلا بالحق، وفي سبيل
الحق.
وكان يجب إلى جانب هذا أن تكون لغة الإسلام من السعة والمرونة وإحكام
التعبير عن المعاني الدقيقة، بحيث تستطيع أداءَ رسالة الإسلام في حُلَّة قشيبة من
جلاء المعنى، وإحكام المبنى، وإعجاز اللفظ، كما يمثِّلها اليوم، ومن قبل أربعة عشر
قرنًا، القرآن الكريم.
فلننظر هل توفرت هذه المزايا والخصال في العرب، دون غيرهم، حتى
خُصُّوا بهذا الشرف؟
♦ ♦ ♦
لقد عُرفت بلاد العرب منذ القِدم في التاريخ بالبداوة، والعزلة،
والمحل، قياسًا إلى جارتها من بلاد فارس ومصر والشام، وما وراء ذلك من أرض الروم،
فكان أكثر سكان الجزيرة، ما عدا اليمن وعمان، من البدوِ الرُّحَّل، لا يؤمُّون
المدن القليلة المبعثرة في أنحاء الحجاز إلا في مواسم الأسواق للمسابلة، وشهود
مساجلات الشعر، وحسم الخصومات، وحقن الدماء.
وكان العرب في عزلة كاملة، إلا ما كان من رحلتي قريش: في الشتاء إلى
اليمن، وفي الصيف إلى الشام، ووفود المناذرة والغساسنة إلى كسرى وقيصر حينًا بعد
حين، يدرؤون عاديتهما مما يكشفون لهما من رجاحة عقولهم، ووَفْرة أحلامهم، وشدة
بأسهم واعتزازهم.
وقد عاش العرب مئات السنين قبل الإسلام بتلك البداوة الموحشة، في تلك
العزلة المنقطعة، حياةً هي أقرب ما تكون إلى الخشونة والجفاف، وأبعد ما تكون عن
الطراوة واللِّين، لكنها حياة حرة عزيزة الجناب.
هذه الحياةُ المنعزلة للعرب لم تكن حياةَ خمول وغباء، كما يتخيل
الكثيرون، وكما يُنتَظَرُ أن تكون حالُ أمةٍ بدوية مغمورة في ظلام الأمية وضلال
الوثنية، بل كانت حياةً كلها نشاط، وكلها ذكاء وعبقرية.
لقد كان أخذ الثأر، والتعصب للقبيلة، وحماية الجار - سببًا دائمًا
لحرب مشبوبة الضرام: تأكل رجالهم، وتتلف أبطالهم، وتباعد بينهم، وتجعلهم في شغل لا
ينقطع من أمرهم،وقد استغنى العرب عن الكتابة والكتب بحافظة من الطراز الأول، تُعَد
آيةً من آيات الذكاء الفطري، لم تحظَ بها أمة أخرى من الأمم،هذه الحافظة القوية
كانت وعاءً لا ينضب: لأشعار العرب، وأنساب العرب، ومآثر العرب،ومن ثَمَّ كانت
حياتهم مقسمة بين ثلاث: الغزو والحرب، مأثور الكلام في مفاخر العرب، السعي في سبيل
العيش مِن رَعْيٍ أو تجارة.
هذه الحياة الساذجة المملوءة بالنشاط والحركة ضمن هذا المثلث
المحدود، كانت تقابلها حياة ضخمة من أُبَّهة الملك، وبسطة السلطان، وزخرف الحضارة
عند الفُرس والروم، وحياة ذلة ومسكنة وخمود عند غيرهما من الشعوب المستضعَفة التي
كانت خاضعة لنيرهما.
ولم يكن حال الأمم الأخرى - كالهند والصين - يخرج عن هاتين
الحالتين،وقد كان من طبيعة القوة الغاشمة التي يعتز بها القويُّ أن تصدَّه عن
النزول عند الحق الذي يكف من غُلَوائه، ويهون من أمر قوته، ويُدِيل من باطله، كما
كان من شأن الهوان والضعف أن يجنِّبَا الضعيفَ حمل رسالة لا يطيقها إلا ذو قوة
وعزة، وقد تبين ذلك من تجربة فرعون وبني إسرائيل، وأما تلك الأمم الأخرى التي لم
تؤمن بعد حتى بشريعة موسى أو المسيح، فكان من المستبعد أن يسلس قيادها لدعوة الحق،
أو تثبت عليها وتقوم في الدفاع عنها بعزم ويقين،فلم يكن إذًا سبيلٌ إلى ظهور رسالة
الإسلام إلا بين ظهرانَيِ العرب، رغم أن ما تقدم بيانه من حالهم، وقلة عددهم
وعدتهم - حريٌّ بأن يُعَدَّ من جوانب النقص التي تدعو إلى إيثار غيرهم،فالحقيقة أن
جوانب النقص هذه في حياة العرب قبيل الإسلام إنما كانت هي المدرسة الإلهية التي
أعدت تلك الأمة الفتية لحمل مشعل النور والهداية فيما بعدُ إلى أقصى أطراف العالم:
بكفاية معجِبة، وقدرة معجِزة، لم يشهد التاريخ لها أي مثيل،أما كيف كان ذلك فإليك
تفصيلَه:
(ج) إعداد العرب لحمل رسالة الإصلاح:
مِن المدهش حقًّا أن تكون نواحي النقص في حياة العرب قبل الإسلام،
كلها أو جلها، مصدرًا لعناصر القوة التي كانت عمادَ وَثْبَتِهم.
بل يكاد يكون ذلك النقص مقصودًا من عند الله؛ لأنها الطريقة المثلى
لصَقْل ملكتهم، وتحرير سجاياهم، وإخضاع كلِّ شيء فيهم لقانون الانتخاب وبقاء
الأصلح.
فهذه الغارات الشعواء والحروب الدهماء التي قلنا: إنها كانت تستنفد
دماءَهم - هي التي أنجبت أبطالهم، وأورثت الشجاعة والإقدام في أبنائهم، وأكسبَتْهم
تلك المزايا الحربية العالية القليلة النظير.
فإذا وضعت الحرب أوزارها، وانصرف الناس لشأنهم، كان عمل أكثرهم
الرَّعْي، والقَنْص، وركوب الخيل من وسائل الرياضة القوية، وعمل القليلِ منهم
التجارة، وما يشبه التجارة من المِهَن المستقرة.
فإذا لم يكُنْ هنالك شاغلٌ من حرب أو عمل، كانت تلك المجالس الساذجة
الخالية من مباهج الحضارة، مدارسة الأشعار، ورواية الأخبار، وترديد مفاخر الآباء
والأجداد: من حض على الفضيلة، وصد عن الرذيلة، وحمد للمروءة، وذم للنقيصة، ينتقون
من ذلك كله أبلغ القول وأجوده، وأرصنه وأحكمه، وكان هناك عوامل عدة تضاعف من خصب
هذه الثروة الفكرية المنتقاة عند العرب، أهمها: سَعَة الفراغ للتأمل،والتأمل أكبرُ
مُعين على نضج الفكر، وتكشُّف المعاني وتركُّزها، وارتباط الألفاظ بمدلولاتها،
وإدراك الصور على حقيقتها،فكان العربي في هذه الحافظة القوية الغنية، غنيًّا عن كل
كتاب وقلم،وكان هذا الاستغناء عن التدوين والكتابة من أهم الأسباب في بلوغ ملَكةِ
الحفظ عند العرب مبلغها من القوة والكمال، واختصاص لغة العرب بهذه المرونة
والقابلية للتطور، وهذا بحثٌ جديرٌ بعناية أدبائنا الباحثين.
ولقد اجتمع للعربي من هذه الحياة التي وصفنا: صحة الجسم، وقوة الذهن،
وصفاء القريحة، وسَعة الفراغ، مع اتصال مباشر وثيق بالحياة، وما اجتمع هذا كله
لإنسان، مهما قل نصيبه من مفهوم (العلم) في عصرنا الحديث، إلا كان جديرًا بأن
ينفُذَ من الحياة إلى لب اللباب، ولا يصدر فيما يقول ويفعل إلا عن صواب، وهذه
الغاية في الحقيقة هي أقصى ما تستطيع العلوم والفنون في مختلف العصور أن تبلُغَه.
وقد درجت هذه المؤثرات المتعددة بحياة العرب في سبيل القوة
والامتياز؛فسَمَتْ آدابهم الاجتماعية على العموم، حتى صار التنافس على اكتساب
الحمد والثناء في الحِلْم والجود والمروءة وحِمى الجار والوفاء بالعهد - شُغل
العرب الشاغل يومهم ونهارهم،وقد بلغوا في ذلك ما لم تبلغه أمة من أمم الأرض،وكان
من فيض تلك القرائح الذكية التي تعشَّقَتِ الإبداع والإحكام في كل شيء، هذا
المأثورُ من لغة العرب، يمثل إعجاز البيان، وفصاحة اللسان، ورجاحة الأحلام، وبراعة
الإجمال للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة.
هذه كانت حالة العرب، وكان كل جانب نقص أو ضعف سببًا إلى الكمال،وقد
أصبح نافلة القول أن نشير إلى خلوِّ هذه الحياة البدوية البسيطة من التشريع بمعناه
المفهوم، لقد كانت العصبية المجملة في قولهم: (انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا)[1] هي
المادة الأولى من قانونهم، فإذا انكشف غبار الحرب والنزاع اجتمعوا إلى حكم عدل من
ذوي الرأي فيهم؛ ليحكم بينهم بالقسطاس المستقيم، آخذًا كل فريق بقوله وحجته،ولعل
من أمتع المتع الفكرية أن يقرأ الإنسان شيئًا من هذه المحاكمات التي تتمثل فيها
خلائق العرب بأجلى بيان،فلا لَجاج ولا سفسطة، ولكن حضور بديهة، ولباقة جدال، وقوة
حجة، ونزاهة حكم، يساق كله في لغة قوية محكمة، مدعمًا بالحكم والأمثال، حتى ينتهي
الشاكي والمشتكي والمشتكى إليه للحق الذي لا ريب فيه، فيرتضيه الجميع وهم صاغرون،
كأعدل ما يكون، وأنفذ ما يكون حكم القضاء في القرن العشرين.
هذا، وما أن قارب مجيء الإسلام، حتى أخذ النظام والانسجام يسري إلى
حياة العرب، يسوقهم إلى ذلك شيوخ، حنكتهم الأيام، ودهاة عجمتهم الشدائد، واستعداد
إلى اقتباس محاسن مُلك الفرس والرومان،فكان لقريش دار ندوة تنظر في خصوماتهم،
وتشير بما فيه الخير والصلاح لهم،وكان للعرب عامة أربعة أشهر حرم، يفِدون فيها إلى
الكعبة وعكاظ وغيرهما: يكرمون أصنامهم، ويطعمون فقراءهم، وينشدون أشعارهم
ومفاخرهم، في لغة أوشكت أن تكون قرشيَّةً خالصة بعدما كانت لهجات إقليمية متنافرة.
وكذلك تميزت الرجال؛ فانعقدت الزعامة لقريش على جميع العرب، وبدأت
غيوم الحرب تنقشع عن أمة قوية العناصر، فيها من قادة الرأي وأبطال الحرب ودهاة
السياسة من أمثال أبي طالب وأبي جهل، وخالد وعمرو بن العاص عدد كبير، ولم يكن
ينقصها سوى رجل واحد.
في تلك الفترة التي التأم فيها شمل العرب، وراحت الآمال تعجم رجالات
قريش تبحث عن (الرجل)، وكلٌّ يؤمِّل أن يكون ذلك الرجل الذي سيبني ملك العرب، أشرق
في سماء العالم كوكب السعد والهداية (محمد بن عبدالله) عليه الصلاة والسلام.
♦ ♦ ♦
(د) الدهشة الأولى لظهور الإسلام:
عهِد الناس محمدًا فتًى كريم النسب، سمح الأخلاق، يؤثِر العزلة
والاعتكاف عما يخوض فيه الناس من أكثر شؤون الحياة،لكنه عُرِف بشيءٍ واحد غطى على
جميع ما تحلى به من المحامد وصفات الكمال: ذلك هو الأمانة والصدق، حتى لُقِّب
بالأمين، وكان حب الناس لذلك الفتى حبَّ إعجاب واحترام، يزيده اطمئنان سادتهم إلى
زهده فيما تعلقت بهم آمالهم من زعامة العرب ورئاسة قريش.
وكانت العربُ - كما قدمنا - أخذت تلم شعثها، وتنسى ضغائنها، وتوحد
صفوفها، توطئة لملك يفاخرون به الأمم،ولكن إلى جانبِ هذه الفكرة المضمَرة المبهمة،
كان قوم من كهَّانهم وأهل العلم بالأديان منهم لا يفتؤون يشيرون إلى قُرب مجيء نبي
من العرب، بشَّرت به الأديان، وذكَرت أوصافه الكتب،حدَّث أبو بكر الصديق رضي الله
عنه، قال: (كنتُ جالسًا بفِناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نفيل قاعدًا،فمر به
أمية بن أبي الصلت، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: هل وجدت؟ قال: لا، وآل من
طلب،فقال:
كلُّ دِينٍ يومَ القيامةِ إلا ♦♦♦ ما
قضى اللهُ والحنيفةُ بُورُ
أمَا إن هذا الذي ينتظر: منا، أو منكم، أو من أهل فلسطين).
بينما كان العرب على مثل هذه الحال من الأُهْبة لأمرٍ مبهَم يحوم
فوقهم، نزل الوحي على فتَى قريشٍ الأمينِ بالهدى ودين الحقِّ؛ ليظهره على الدين
كله، ولو كره المشركون.
هنا أستميح القارئ عذرًا للخروج عن سياق البحث لأثبت صورة من طباع
البشر حين يلقون الحقَّ جديدَ الإهاب غريبَ المعالم.
1. أم المؤمنين خديجة:
أول هذه الصور وأحقها بالذكر: موقف أم المؤمنين خديجة رضي
الله عنها، أولى زوجات النبي وأجلهن شأنًا في حياته الشريفة، كانت أولَ إنسان أفضى
إليه رسول الله بنبأ الوحي الذي نزل عليه في غار حراء لأول مرة،وكان الشك المقرون
بالوجَل يخالج قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في شبه غشية من شدة ذلك الأمر
وقد تزمَّل وأخذته رجفة، وانغمر في موج من التفكير فيما عسى أن يكون من شأنه،
وفيما عسى أن يصنع ويقول للناس،في تلك الفترة العصيبة من الحيرة والتردد، كانت
خديجة رضي الله عنها أسرع الناس إلى الإيمان، وأرحبهم صدرًا لتصديق ما أخبر به
الأمين،وما وَنَتْ أن أتَتْ ورقة بن نوفل تستوضحه أمر ذلك النجي الخفي الذي كلَّم
محمدًا في الغار، وما عادت إلا بالبشرى تبدِّد شكوكه وتطيب من نفسه،وتغدق عليه
فيضًا من الحنان والإخلاص يهون عليه كثيرًا من عبء ذلك الأمر الخطير.
هذا الموقفُ لا ريبَ أنه يمثِّلُ أسمى مراتب الإخلاص الذي لا يحجُبُ
عنه الحقَّ أيُّ حجاب، ولا يصدُّ صاحبَه عنه شكٌّ أو ارتياب.
2. أبو بكر الصِّدِّيق:
إلى جانب هذه الصورة صورة أخرى كثيرة الشبه بها، هي الصِّدِّيق رضي
الله عنه، ووجه الشَّبه بينهما هو المصدر الأول لإيمانهما بنبوة الرسول الكريم،
ذلك المصدر هو الثقة في صدقه، والإخلاص العظيم في محبته وإعزازه.
قال له رضي الله عنه: "يا أبا القاسم، ما الذي بلغني عنك؟ قال:
((وما بلغك عني؟))، قال: بلغني عنك أنك تدعو إلى توحيد الله، وزعمتَ أنك رسول
الله! قال: ((نعم يا أبا بكر،إن ربي جعلني بشيرًا ونذيرًا، وجعل لي دعوة إبراهيم،
وأرسلني إلى الناس جميعًا))، قال أبو بكر: والله ما جرَّبتُ عليك كذبًا، وإنك
لخَليق بالرسالة؛ لعِظَم أمانتك، وصلتك لرحمك، وحُسن فِعالك، مُدَّ يدك فإني
مبايعك!".
هكذا تم إسلامه، وما خطر له قط أن محمدًا واهمٌ فيما يقول، أو مدَّعٍ
فيما يزعم،بل كان رضي الله عنه من الثقة في رجاحة عقله وصدق روايته، وقد كان ذلك
الإيمان الصادر عن خالصة المحبة لرسول الله من القوة بحيث كلفه في بداية الأمر من
المخاطرة والتعرض لغضب قريش ما لا يقدم عليه إلا ذو يقين، يستعذِبُ كلَّ أذًى
ومحنة في سبيل عقيدته، ووفائه لصاحبه، هذه الصورة والتي قبلها للمحبة والصداقة
تحمل صاحبها على اعتناق عقيدة تجعله خصيمًا لقومه كافة، ويضحي في سبيلها بكل غالٍ
ورخيص عن طيب خاطر، هي صورة نادرة في حياة البشر، ولا يمكن اعتبارها صورة صحيحة
لعقلية العرب وإيثار مفكريهم للحق في ذلك الحين.
ولكن إليك رجلًا هو مثال للعقلية العربية الناضجة المتشبعة بروح
الحق، يريك كيف يكون اعتناق الفكرة بعد النظر والاقتناع في جراءة وقوة وإعلان، ذلك
هو:
3. عمر بن الخطاب:
لقد علِم عمرُ بن الخطاب من
أمر محمد ما علمه خاصة قريش وعامتهم، وكان أشدَّهم حنقًا عليه منذ علم باجتماع
أصحاب محمد في دار حفصة، حتى همَّ أن يريحهم منه، ويكفيهم أمره بنفسه،فما أن سمع
بعض آيات الحق، حتى نفَذ الإيمان إلى قلبه غير معاند ولا مكابر، وخرج من لدنه يعلن
لقريش على رؤوس الأشهاد أن محمدًا على حق، وأنه مؤمن بما نزل عليه من عند ربه،
رضِيَت قريشٌ أم أبَتْ!
• لم يكن إيمانُ ابن الخطاب عن ثقة بصدق محمد عليه السلام ولا عن مودة
له، إنما كان اقتناعًا بما سمع من آيات الله، وإيمانًا منه بأنها فوق طاقة
البشر،هذا الحرص من عمر رضي الله عنه على التماس الحق والإنصاف له واتباعه بلا
هوادة ولا تردد، كان من أظهر صفاته التي لازمته في جميع أدوار حياته، جاهليةً
وإسلامًا، حتى كان لا يبالي أن يجادل رسولَ الله في سبيل الحق، (وقد كان موفَّقًا
ملهَمًا بالصواب، وكثيرًا ما كان يشير على الرسول صلى الله عليه وسلم بأمرٍ ثم
ينزل القرآن به).
وكان رسول الله يدرك ويُكبِرُ فيه هذه السجية، فكان أوثقَ الناس
مشورةً عنده.
وقد كان إسلام عمر رضي الله عنه فاتحة جهاد عنيف بين حرية الفكر التي
يستميت صاحبها في سبيل الحق والعقيدة، وبين جمود الفكر الذي يستميت صاحبه في سبيل
الباطل الموروث، والغرض المتحكم في النفوس،وكما يصح أن يُعَدَّ عمرُ رضي الله عنه
رأسًا للفريق الأول السابقين إلى الإسلام، يصح أن يُعَدَّ أبو جهل - لعنه الله -
رأسًا للفريق الآخر ممن صدوا عنه وقابلوه بأشد العدوان، ولا شك أن الفريق الأول هو
الأقل عددًا في كل زمان ومكان من كل أمة،وكذلك كان العرب حين أعلن محمد دعوته بعد
إسلام عمر، كلهم (أبو جهل) في كفره وعنته، إلا قليلًا من المؤمنين.
ومن يومئذ بدأ الإسلام يجاهد جهادًا عنيفًا في سبيل الحياة،وقد تلقاه
عامةُ العرب بالنفور، وخاصتُهم بالارتياب.
كان (الأمين) إلى ذلك الحين محبوبًا مصدَّقًا؛ حتى ارتضته العرب
حكَمًا في وضع الحجر الأسود بمكانه من الكعبة؛ لأنه لم يخالف قومه في مألوف، ولم
يسفِّهْ أحلامهم في معروف، ولا سولت له نفسه أن يمد بسبب إلى الرياسة،أما وقد
جاءهم بجديد يخالف مألوفهم، ويسفه أحلامهم، ويصرفهم عن دينهم الذي نشؤوا عليه
ليجمعهم حوله ويلي أمورهم بنفسه - فذاك ما لا يكون!
هي دهشة، ولكل جديد دهشة، وحيرة، عَرَتْ قريشًا، وحملتهم على مناوأة
رسول الله،حيرة من كان يُعِدُّ نفسه لأمر ثم جُبِهَ بغيره لم يكن يخطر له على بال،
ودهشة من يفجأ بحدث من رجل هو آخر من كان ينتظر منه مثله، في اعتزاله وزهده وضعف
ناصره.
فلما بدَأ رسول الله يدعو قومه إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة لم
يلقَ من سادة قريش ومن عامة العرب إلا آذانًا أصَمَّها الغرض والحسد والجمود على
ما خلَّف الأجداد،وقد دامت تلك الحال عشرة أعوام، عرفت بما احتمله رسول الله في
أثنائها من أذى قريش واضطهادهم له ولصحبه، حتى هاجر في النهاية كما هاجر أكثر
أصحابه قبل ذلك، وقصد المدينة لا ثاني معه غير الصِّدِّيق رضي الله عنه،وكانت تلك
الهجرة إيذانًا من الله بانكشاف المحنة، فانطلقت عقول العرب من عقالها، وخرجت
طباعهم عن جمودها، يلتمسون وجه الحق فيما يزعم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
نعم، بدأ الناس يدركون أن كفاحًا في سبيل العقيدة يبلغ بصاحبه هذا
المبلغ من البلاء والشدة لا يمكن أن يكون القصدُ منه ما يتوهم الناس من حب الرياسة
وبُعد الصيت، ونباهة الذِّكر،وإذا جاز مِثلُ هذا الخطل من أحد، فإنه بعيدٌ أن يصدر
من محمد في حَصافة عقله، وكمال خُلقه، وما عُرف به فيما مضى من حياته،أما وقد
عرضوا عليه كل مطمع فأبى أن يدعَ ما يدعو إليه، فإنه لأمر جديرٌ بأن يتدبر بغير
تلك العصبية العمياء التي خضعوا لسلطانها أول الأمر.
وقد كان إلى حين الهجرة، نزل من القرآن مقدار كبير، وآمن من عقلاء
العرب وأصحاب الرأي والتدبير فيهم خَلْق غيرُ قليل.
فلم يكَدْ رسولُ الله يستقر بالمدينة التي تلقاه أهلها لقاء الظافر
المنتصر، مؤمنين مرحبين، حتى توافدت عليه رجال القبائل وأشياخ الرأي يبايعونه على
الهدى، ويعاهدونه على النصرة، وأصبح أنصارُه وحلفاؤه كل يوم في ازدياد.
♦ ♦ ♦
بزوال تلك الدهشة الأولى، ودخول العرب أفواجًا في دين الله، أحسَّ
سادة قريش، وأولو الزعامة منهم، خاصة، بالخطر.
ورأوا أنفسهم بين أمرين، أحلاهما مرٌّ: إما أن يسوقوا العرب في وجه
هذا النبي العَصِيِّ، فيثيروها حربًا شعواء، لا يعلم مصيرها إلا الله، فيعود العرب
حيث كانوا في الجاهلية ينحر بعضهم بعضًا، وإما أن يخلُّوا بينه وبين الناس يسحرهم
بقرآنه، ويستميلهم بقوة حجته وفصاحته، فلا يلبث أن يستأثر دونهم بالأمر، ويصبحوا
من الخاسرين،وقد أبى شيطان الهوى إلا أن يسوم قريشًا الخطة الأولى، وانتشبت حرب لم
تكن في الحقيقة - عند رجال قريش - إلا في سبيل الزعامة والرياسة، أو كما قال الله
تعالى: ﴿ لِيَمِيزَ
اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ﴾
[الأنفال: 37]؛ فأعزَّ الله المؤمنين، وخذَل الكافرين، ودخَل النبي وأصحابُه
مكَّةَ ظافرين غالبين، كما خرجوا منها خائفين مستضعَفين.
♦ ♦ ♦
خاتمة
بدخول المسلمين مكة فاتحين تم الأمر للإسلام بين عرب الحجاز، وأخذ
رسول الله يوجه دعوته إلى أطراف الجزيرة النائية: اليمن وعمان،فأسلمت الأولى
حربًا، وأسلمت الأخرى طوعًا، وأقبل الجلندي وأخوه يبايعان رسول الله على الطاعة،
والإسلام، وأداء الزكاة لمن يولِّيه أمرَ ذلك من أصحابه،وبتمام دخول اليمن وعمان
في الإسلام خرج الإسلام من كفاحه الأول في سبيل الحياة والبقاء موفَّقًا منصورًا،
وأوشكت رسالة النبي على التمام حين شرع يوجه الدعوة لغير العرب من ملوك العجم،
أمثال: كسرى وقيصر وهرقل، ونجاشي الأحباش،وبتمام رسالته عليه أفضل الصلاة والسلام،
ختمت صفحة النشوء، وفتحت صفحة جديدة لانتشار الإسلام فيما وراء الجزيرة، واتساعه
وتقدمه وقيام تلك الحضارة الزاهرة التي خلدت أسماء دمشق والقاهرة وبغداد وقرطبة
وغيرها في سجل التاريخ بمداد من الذهب.
فكان فجرُ الإسلام حقًّا مثالًا فذًّا لِما تستطيع أن تصنعه عزائم
الرجال من جلائل الأعمال، حين تخلص النيات، وتعمر القلوب بالإيمان، ويسلك الناس
إلى غاياتهم طريق الحق والصدق وَفْق ما جاء به الإسلام.
وما من شك أن آخرَ هذا الدِّين لا يصلُحُ إلا بما صلَح به أوله؛
فلنلتمس في هذه السيرة المباركة وجهادها المجيد نورًا ورشدًا، فنحيي ما اندثر من
سنن الإسلام، ونصلح ما أفسده التقليد الأعمى على توالي الأيام، ونتعهد تلك الدوحة
بالعمل الصالح: فتحيا وتخضر، وتورق وتثمر، وتعود كما كانت؛ تمد الناس بالطيبات،
وتبعث فيهم بهجة الحياة.
أما سبيل انتشار الإسلام وتقدمه، والعوامل التي أدت إليه، وأعانت
عليه، والأسس التي قامت عليها حضارة الإسلام فيما بعد، فذاك بحث مستقل، عسى أن
نوافي به القراء في العدد الآتي إن شاء الله،وحسبنا الآن هذا القدر، ومن الله
التوفيق.
ملاحظة: أغلب
شواهد هذا المقال أخذت عن كتاب (خريجو مدرسة محمد) للأستاذ إبراهيم الواعظ؛ فله
الشكر على ما وفَّر مِن جهد على الباحثين.
مجلة التمدن الإسلامي، السنة
الثالثة، العدد السادس، 1356هـ
- 1937م
[1] المجلة:
رُوي هذا أيضًا في حديث شريف، ولكن بمعنى إغاثة المظلوم، وكف الظالم عن ظلمه؛
(راجع ج: 2ص 246 من هذه المجلة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق