الأربعاء، 16 أبريل 2014

النصوص التوراتية وعقيدة التثليث

إن من الطبيعي والمتوقع ونحن نتحدث عن أهم عقائد النصرانية، أي التثليث أن نجد ما يؤصله في عشرات النصوص الواردة على لسان الأنبياء ثم المسيح ثم تلاميذه من بعده.
لكن التصفح الدقيق لما بين دفتي الكتاب المقدس يكشف لنا غياب الدليل الصريح الذي نبحث عنه، في العهد القديم، وأيضاً في الجديد، ولم العجلة في إصدار الأحكام، هلم نتأمل ما جاء في الكتاب المقدس من تأصيل لهذا المعتقد الهام.



أولاً : النصوص التوراتية وعقيدة التثليث


لم يرد في العهد القديم نص واحد يتحدث عن الثالوث الذي يشكل جوهراً واحداً، بل نستطيع القول بأن (الابن والروح القدس) اسمان لم يردا أبداً في العهد القديم ؛ فضلاً عن الحديث عن الثالوث الجامع الذي تنادي به الكنيسة، فكيف يمكن الإيمان بعقيدة لم يعرفها الأنبياء خلال 1500 سنة من الوحي الإلهي؟.

هذه الحقيقة المذهلة لن تمنع الغريق من التعلق بقشة ، فقد تعلق النصارى ببعض النصوص التوراتية، وزعموا أنها إشارات ورموز إلهية إلى التثليث، منها استخدام بعض النصوص التوراتية صيغة الجمع العبري (ألوهيم) عند الحديث عن الله كما في مقدمة سفر التكوين "في البدء خلق الله السماء والأرض" (التكوين 1/1)، وفي النص العبري "إلوهيم" أي: (الآلهة)، ومثله في استخدام ما يدل على الجمع في أفعال منسوبة لله، كقول التوراة أن الله قال: "هلم ننزل ونبلبل" (التكوين 11/7).

    ومن الإشارات التوراتية أيضاً لتثليث الأقانيم قول الملائكة: "قدوس، قدوس، قدوس، رب الجنود" (إشعيا6/3)، فقد كرر ذكر كلمة (قدوس) ثلاث مرات، ومثله قالت الحيوانات التي رآها يوحنا في رؤياه: "قدوس، قدوس، قدوس، الرب الإله القادر على كل شيء" (الرؤيا 4/8)، فزعموا أنها تعني: (قدوس الآب، قدوس الابن، قدوسالروح القدس).


    نقد الاستدلال بالنصوص التوراتية


بداية يعترف النصارى بأن ليس في هذه النصوص ما نستطيع أن نعتبره دليلاً صريحاً على التثليث الذي تنقضه النصوص التوحيدية الصريحة، كما لم يفهم سائر قراء العهد القديم - من لدن الأنبياء الأوائل لبني إسرائيل - شيئاً عن تلك التي يعتبرها النصارى إشارات على التثليث، ويعترف بذلك القس بوطر: "بعدما خلق الله العالم، وتوج خليقته بالإنسان لبث حيناً من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص بالوحدانية، كما تبين ذلك من التوراة، على أنه لا يزال المدقق يرى بين سطورها إشارات وراء الوحدانية، لأنك إذ قرأت فيها بإمعان تجد هذه العبارات "كلمة الله" أو "حكمة الله" أو "روح الله" ولم يعلم من نزلت إليهم التوراة إلا في ضوء الإنجيل المعنى المراد ... فما لمحت إليه التوراة صرح به الإنجيل"[1].
ويقول الدكتور واين جردوم: "أما في العهد القديم فالطبيعة الثالوثية لم تكن قد أعلنت بوضوح بعد، فإنه من غير المستغرب أن لا نجد أدلة على أن الصلاة كانت ترفع مباشرة إلى الله الابن أو الروح القدس قبل زمن المسيح"[2].

ويبرر عوض سمعان عدم وجود التثليث صراحة في العهد القديم: "نظراً لانتشار الوثنية في الأزمنة الغابرة، واحتمال إساءة اليهود فهم حقيقة التثليث وقتئذ، وجواز اتخاذهم إياها أساساً للاعتقاد بصدق عقيدة تعدد الآلهة التي كان الوثنيون يؤمنون بها؛ كان من البديهي ألا يقوم الله بإعلان حقيقة كونه ثلاثة أقانيم دفعة واحدة"[3].

وهنا يتساءل المرء: هل كان هذا السبب كافياً لإلغاز الله تثليث أقانيمه عن نوح وموسى وبني إسرائيل، فقد كان سبب ضلالهم وتيههم عن التثليث؛ فقد لبَّسه عليهم ما يقرؤونه في الكتاب من نصوص موحدة، جعلتهم يحاربون عقيدة التثليث ويرفضونها، فهل سيغفر لهم ولغيرهم أنهم لم يهتدوا إلى حقيقة المراد من هذه الألغاز؟.
ونظر المحققون فيما أسمته النصارى إشارات التوراة، فوجدوها محض تمحل لا تقبله الأذواق السليمة، ولا ترتضيه دلالات الكلام وتناسق السياق.
ثم إن غاية ما يمكن أن تدل عليه هذه النصوص تعدد الآلهة، من غير تحديد لها بالتثليث أو التربيع أو غيره، فالجمع الوارد في مثل قوله: (إلوهيم، هلم، ننزل، ونبلبل) لو أفاد جمع العدد فإنه يحتمل التربيع والتخميس وغيرهما، ولا يفيد التثليث بالضرورة.
لكن هذه الألفاظ يراد منها جمع التعظيم لا التكثير والتعدد، وقد اعتادت الأمم التعبير عن عظمائها باستخدام جمع التعظيم، فيقول الواحد: نحن، ورأينا، وأمرنا، ومقصده نفسه، ولا يفهم منه مستمع أنه يتحدث عن ذاته وأقانيمه الأخرى.

واستخدام صيغة الجمع للتعظيم لا العدد معروف عند اليهود، ويسمونه ( رِيبُويْ هَكَبود)، أي جمع التعظيم أو الشرف، ويستعملونه في لغتهم؛ وبخاصة فيما يتعلق باسم الجلالة (إلوهيم אלהים)، يقول البروفيسور الرابي مناحيم كوهين الأستاذ في جامعة بار إيلان في كتابه : (مِكرأوت جدولوت)، ومعناه (القراءات الكبيرة): "لقد فسر (الرابي إبراهام بن عزرا 1089- 1166) سبب تكلم الله بصيغة الجمع في عدة أماكن في التوراة , وأكثر الرابيين على طول الأجيال تبنوا رأيه , إن رأيهم بأن استعمال كلمة (إلوهيم) بصيغة الجمع هي لسان جمع لجلالة الملك, كما هي العادة في خطاب الملوك وأرباب المناصب. وببساطة إلوهيم يتكلم عن نفسه بلسان الجمع حتى يُفخم نفسه".

ويقول الرابي اليهودي توفيا سينجر في موقعه على شبكة الإنترنت (Outreach Judaism): "من الخطأ الفادح للمبشرين أن يترجموا اسم (إلوهيم אלהים) على أنه يمثل نوعاً من المجموع بالنسبة للربوبية، وإلا فكيف يمكن للمبشرين أن يفسروا لنا الكلمة المقابلة لإلوهيم الواردة في (سفر الخروج 7 : 1) وهي تشير إلى موسى؟ "فقال الرب لموسى: انظر. أنا جعلتك إلهاً (إلوهيم) لفرعون".
ويقول الدكتور جرهاردوس فوس: "وأما لقب (إلوهيم אלהים) فهو صيغة جمع تدل على الجلال والعظمة والغنى والسمو والكمال"[4].
ويقول المطران كرلس سليم بسترس رئيس أساقفة بعلبك: "في العهد القديم استعمل الشعب اليهودي كلمتين للإشارة إلى الله، كلمة (إلوهيم) وهي اسم جمع أو تفخيم لكلمة (إيل) التي استعملتها مختلف الشعوب الساميّة للدلالة على الله"[5].

ونختم بالأب متى المسكين حيث يقول: "و(إلوهيم) تأتي بالجمع في تكوينها، ولكن على مدى الكتاب تأتي بالمعنى المفرد لتدلّ على الله الحقيقي الفعّال، ليظهر الجمع أنه جمع المجد والجلال والعظمة، ولا دخل له بتعدد الآلهة على وجه الإطلاق"[6].
وصيغة جمع التعظيم معروفة أيضاً في الكتاب المقدس، ولها صور عديدة، منها قصة المرأة العرافة التي رأت روح صموئيل بعد وفاته، فعبرت عنه باستخدام صيغة الجمع، تقول التوراة: "فلما رأت المرأة صموئيل صرخت بصوت عظيم .. فقالت المرأة لشاول: رأيت آلهة (אלהים) يصعدون من الأرض، فقال لها: ما هي صورته؟ فقالت: رجل شيخ صاعد، وهو مغطي بجبّة. فعلم شاول أنه صموئيل" (صموئيل (1) 28/12-14)، فقد كانت تتحدث عن صموئيل، لقد رأته على هيئة رجل شيخ، وتستخدم مع ذلك صيغة الجمع (آلهة אלהים)، فالجمع لا يفيد العدد بالضرورة، بل هو جمع التعظيم.
 وعندما عبد بنو إسرائيل العجل، وهو واحد سمته التوراة آلهة مستخدمة صيغة الجمع في ثلاثة مواضع، تقول: "فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل، وصنعه عجلاً مسبوكاً، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ... صنعوا لهم عجلاً مسبوكاً، وسجدوا له، وذبحوا له، وقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر" (الخروج 32/4-8).
ويمضي السفر ليؤكد ثالثة أصالة استعمال الجمع الذي يراد منه الواحد، فيقول: "رجع موسى إلى الرب، وقال: آه قد أخطأ هذا الشعب خطية عظيمة، وصنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب" (الخروج 32/31).
ومثله تجد هذا الاستخدام شائعاً في لغة العرب، كما في قول الله: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ (الحِجر: 9)، فالمقصود هو الله الواحد العظيم.

وأما التكرار ثلاث مرات في قول الملائكة أو حيوانات رؤيا يوحنا وأمثال ذلك، فلا يصلح في الدلالة في شيء. فلو اطرد الاستدلال على هذه الكيفية فلسوف نرى تربيعاً وتخميساً وغير ذلك من التعداد للآلهة، فلئن وردت كلمة (قدوس) مثلثة مرتين في الكتاب المقدس، فإنها وردت مفردة نحو أربعين مرة، وإنما يراد من التكرار التأكيد فحسب، كما في نصوص إنجيلية وتوراتية كثيرة[7]، منها قول اليهود: "فصرخوا قائلين: اصلبه، اصلبه" (لوقا 23/21).
ونحوه في سؤال المسيح لبطرس، فقد كرره ثلاث مرات " فبعدما تغدوا قال يسوع لسمعان بطرس: يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء؟ قال له: نعم يا رب، أنت تعلم أني أحبك ... قال له أيضاً ثانية: يا سمعان بن يونا أتحبني؟... قال له ثالثة: يا سمعان بن يونا أتحبني؟ فحزن بطرس لأنه قال له ثالثة: أتحبني" (يوحنا 21/15-17).
وهكذا تبين للقارئ الباحث عن الحق بطلان الاستدلال بالتوراة على عقيدة التثليث.
الدكتور منقذ بن محمود السقار
---------------------------
[1] انظر: محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، ص (121)، العقائد المسيحية بين القرآن والعقل، هاشم جودة، ص (129-130).
[2] كيف يفكر الإنجيليون في أساسيات الإيمان المسيحي، واين جردوم، ص (319).
 [3]  الله في المسيحية، عوض سمعان ، ص (234).
 [4]  علم اللاهوت الكتابي ، جرهاردوس فوس ص (109)، وانظر دائرة المعارف الكتابية (1/379).
 [5]  اللاهوت المسيحي والانسان المعاصر ، المطران كرلس سليم بسترس (1/37-38).
 [6]  النبوة والأنبياء في العهدالقديم، الأب متى المسكين ، ص (50).
 [7]  انظر : (إرمياء 7/4، 22/29)، و (حزقيال 21/27).

http://www.burhanukum.com/article974.html 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق