الأربعاء، 16 أبريل 2014

الفادي

 ورغم هذه العقوبات والمخارج فإن النصارى يقولون بلزوم الفداء والقصاص، فلم لا يكون القصاص في آدم وحواء، فيحييهما الله ويصلبهما، أو يصلب بدلاً منهما شيطاناً أو سوى ذلك، فإن ذلك أعدل من صلب المسيح البريء.
يجيب النصارى بأنه لابد في الكفارة أن تكون شيئاً يعدل البشر جميعاً، من غير أن يحمل خطيئتهم الموروثة، وهذه الشروط لا تتوافر في آدم وغيره، بل هي لا تتوفر إلا في المسيح الذي تجسد وتأنس من أجل هذه المهمة العظيمة، فكان أداة خلاصنا ورحمة الله بنا كما قال يوحنا: " لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، كي لا يهلك كل من يؤمن، بل تكون له الحياة الأبدية، ولأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص " ( يوحنا 3/16 - 17 ).



فالمسيح يتميز عن سائر البشر بأنه ولد طاهراً من إصر الخطيئة، ولم يصنعها طوال حياته، فهو وحده الذي يمكن أن يصير فادياً وأن يقبل به الفداء، وكما يقول بطرس: " عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى: بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حَملٍ بِلاَ عيْب ولا دنس، دم المسيح " (بطرس (1) 1/18 - 19)، ويقول مؤلف رسالة العبرانيين المجهول: "يسوع ابن الله فلنتمسك بالإقرار ... بل مجرب في كل شيء مثلنا، بلا خطية" (عبرانيين 4/14-15).
لكن المسيح لا يمتاز هنا عن كثيرين من الأبرار والمؤمنين الذين لم يفعلوا خطيئة ولا ذنباً، "كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية " (يوحنا (1) 3/9)، ولا يخفى أن كل المؤمنين مولودون من الله "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا : أولاد الله، أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12). أمَا كان صلب أحد هؤلاء كفارة أولى من صلب الإله؟
لكنا نرى أن شرط النصارى في براءة الفادي من الذنب لم يتحقق حتى بالمسيح، رغم أن الشرط وضع وفق مواصفات النصارى له، فالمسيح عندهم جسد أرضي ويكتنفه حلول إلهي، وهم حين يقولون بالصلب فإن أحداً منهم لا يقول بصلب الإله، لكن بصلب الناسوت، والتوراة تقول: "ليس إنسان لا يخطئ" (الملوك (1) 8/46)، فالمصلوب هو الناسوت، وليس من إنسان إلا ويخطئ.
كما أن ناسوت المسيح جاءه من مريم التي هي أيضاً حاملة للخطيئة، فالمسيح بجسده الفادي الحامل للخطيئة وراثة لا يصلح أن يكون فادياً!
وعلى كلٍ فالمصلوب هو ابن الإنسان، وليس ابن الله، أي الناسوت لا اللاهوت، فالثمن دون الغرض الذي يدفع له، كيف لإنسان أن يعدل البشرية كلها بدمه؟
والمتأمل في نصوص العهد الجديد يراها تنسب إلى المسيح – وحاشاه عليه الصلاة والسلام– العديد من الذنوب والآثام التي تجعله أحد الخاطئين، فلا يصلح حينئذ لتحقيق الخلاص، لحاجته هو إلى من يخلصه.

فالأسفار الإنجيلية تنسب إلى المسيح العظيم العديد من الرزايا والبلايا، إذ تذكر أنه كان حريصاً على إضلال قومه، محباً لهلاكهم، كما تذكر أنه كان سبّاباً وشريب خمر، وهو بذلك مستوجب لدخول جهنم، ومحروم من دخول الملكوت، وحاشاه عليه الصلاة والسلام.
فقد اتهمه متى بشرب الخمر "جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب. فيقولون: هوذا إنسان أكول وشريب خمر. محب للعشارين والخطاة" (متى 11/19).
فيما نسبت إليه الأناجيل الكثير من السباب والشتائم لليهود والتلاميذ، كما في قوله لتلميذيه: "أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء" (لوقا 24/25)، وقوله لبطرس : "اذهب عني يا شيطان " ( متى 16/23 ).
وكذا شتم الأنبياء وشبههم باللصوص في قوله: " قال لهم يسوع أيضاً: الحق الحق أقول لكم: إني أنا باب الخراف. جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص" (يوحنا 10/7-8).
وهذا السباب وغيره يستحق فاعله، بل فاعل ما هو أقل منه نار جهنم، وذلك حسب العهد الجديد، يقول متى: " ومن قال: يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم" (متى 5/22)، وقال بولس متوعداً الذين يشتمون والذين يشربون الخمر بالحرمان من دخول الجنة: "ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله" (كورنثوس (1) 6/10)، فمن استحق النار – وحاشاه عليه الصلاة والسلام - هل يصلح ليفدي البشرية كلها؟!
كما يؤكد المسلمون أن صلب المسيح البريء نيابة عن المذنب آدم وأبنائه حاملي الإثم ووارثيه نوع من الظلم لا تقره الشرائع على اختلاف مصادرها، ولو عرضت قضية المسيح على أي محكمة بشرية لصدر حكم ببراءته في دقيقتين فقط. فكيف قبِل النصارى أن ينسبوا إلى الله عز وجل الرضا عن مثل هذا الظلم، هل يرضى الرب العادل أن يؤخذ البريء بذنب المذنب، وهو - عز وجل - قادر على العفو والمغفرة.
ويجيب النصارى بأن ليس في الأمر ظلم، وذلك أن المسيح تطوع بالقيام بهذه المهمة، بل إن نزول لاهوته من السماء وتأنسه كان لتحقيق هذه المهمة العظيمة المتمثلة بخلاص الناس من الإثم والخطيئة.
أما جويل بويد فيتجه اتجاهاً آخر فيرى أن لا ظلم في صلب المسيح، إذ أن المسيح بتجسده الإنساني قد أصبح خاطئاً متقمصاً شخصية الإنسان المجرم الخاطئ، وعليه فقد استحق قول التوراة: " النفس التي تخطئ هي تموت " (حزقيال 18/4). (1)
والقول بتبرع المسيح البريء بالصلب عن الخطاة مردود من وجوه عدة:
- منها أن المسيح لا يحق له أن يرضى عن مثل هذا الصنيع، فهذا من الانتحار لا الفداء. فقاطع يده أو قاتل نفسه مذنب، مع أن ذلك برضاه ووفق إرادته.
- ومنها أن المسيح صدرت منه تصرفات كثيرة تدل على هروبه من اليهود وكراهيته للموت على أيديهم، ولو كان قد جاء لهذه المهمة، فلم هرب منها مراراً، وصدر عنه ما يشعر بجهله بهذه المهمة.

فقد هرب المسيح من طالبيه مراراً، وحرص على النجاة من مكائدهم. ( انظر يوحنا 8/59، 10/39، 11/53).
ولما رأى إصرارهم على قتله لم يسلم نفسه، بل خرج من أورشليم، وقال: " بل ينبغي أن أسير اليوم وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك بني خارجاً عن أورشليم " ( لوقا 13/33 ).
لذا اختار الجليل ملاذاً له من مؤامرة اليهود "وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل، لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية، لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه" (يوحنا 7/1).
وصار المسيح يتخفى حين تجبره الظروف على الظهور "فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه، فلم يكن يسوع يمشي بين اليهود علانية" (يوحنا 11/54).
ولما أحس بالمؤامرة أمر تلاميذه بشراء سيوف ليدفعوا بها عنه. ( انظر لوقا 22/36 - 38).
ثم هرب إلى البستان، وصلى طويلاً وحزن واكتئب وتصبب عرقه وهو يطلب من الله " إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس " ( متى 26/39 )، لقد طلب من الله أن يصرف عنه كأس الموت.
ثم لما وضع على الصليب - كما زعموا - صرخ: " إيلي إيلي، لم شبقتني، أي: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ " ( متى 27/46 )، فلم يكن راضياً عن صلبه، ولا عالماً بالمهمة التي زعموا أنه جاء لأجلها.
وصراخ المصلوب اليائس على الصليب اعتبرته دراسة صموئيل ريماروس ( ت 1778م ) حجة أساس في نتائجه التي توصل إليها بعد دراسته الموسعة، فاعتبره دالاً على أن المسيح لم يخطر بباله أنه سيصلب، خلافاً لما تقوله الأناجيل. (2)
ومنها: أن المسيح لم يخبر عن هذه المهمة أحداً من تلاميذه، وأن أحداً منهم لم يعرف شيئاً عن ذلك، كما لم تخبر به النبوات على جلالة الحدث وأهميته.

ثم إنه قال قبيل الصلب والفداء المفترض: " أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل، قد أكملته " ( يوحنا 17/5 )، فقد أكمل عمله على الأرض قبل الصلب، فكيف يقال: إنه جاء ليصلب، وقد أكمل عمله الذي لأجله جاء، ولما يصلب بعد.
وأخيراً: هل تقبل محكمة عادلة متحضرة أن تأخذ البريء المتطوع لحمل وزر الخطيئة بذنب المجرم الخاطئ؟ إن أحداً من البشر لا يصنع مثل هذا الخَرق، ومن باب أولى أن يتنزه الله الحكيم عنه

.
لم أُرسل المسيح ؟


يحصر النصارى مهمة المسيح المتجسد بالصلب ليتحقق الحب الإلهي للبشر، والمتمثل بالفداء والخلاص من خطيئة أبينا آدم والخطية الموروثة لذريته، كما قال يوحنا: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية " (يوحنا 3/16 ).
وهو " الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين " ( رومية 8/32 ).
ونص يوحنا قول مهم في بيان مهمة المسيح، لكن أحداً لم يذكره غير كاتب يوحنا المجهول، فإما أن يكون القول من عنده كذباً وزوراً، وإما أن نقول بأن الإنجيليين الثلاثة فرطوا أيما تفريط في ذكر أهم مقتضيات إرسال المسيح.

ويكذب هذا النص المهمات التي أطبقت على ذكرها الأناجيل، فإن آدم والخطيئة الأصلية لم يردا على لسان المسيح أبداً، فضلاً عن الزعم بأنه جاء من أجل تكفير هذه الخطيئة، ولقد قصر عيسى عليه السلام مهمته التي جاء من أجلها بتذكير الناس بالقيامة والحساب وبعثة النبي الخاتم "قد تم الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" ( مرقس 1/14 ).
واستمر في دعوته قائلاً: "إنه ينبغي لي أن أُبشر المدن الأخر أيضاً بملكوت الله، لأني لهذا قد أُرسلت" ( لوقا 4/43 ).
ومن مهماته إتمام الناموس، لذا تجده يقول: " لا تظنوا أني أتيت لأنقض الناموس، أو الأنبياء، ما جئت لأنقض، بل لأكمل " ( متى 5/17 ).
وأعظم مهماته عليه السلام الدعوة لتوحيد الله " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل، قد أكملته " ( يوحنا 17/3 - 4 ).
ونص يوحنا السالف (يوحنا 3/16) معارض أيضاً بسؤال المسيح الله أن يجيز عنه كأس الصلب، فلو كانت تلك مهمته لما جاز سؤاله بإجازة الكأس عنه.
وأما قول بولس في ( رومية 8/32 ) فهو لا يشعر برضا المسيح، بل ناطق بظلم وقسوة لا يصح أن ينسبا إلى الله، ويرِد عليه ما يرِد على نص يوحنا.
وقد زعم يوحنا أن محبة الله للبشرية هي سبب صلب المسيح فداء عن العالمين. فماذا عن محبة الله للمسيح الذي لم يشفق عليه، وأسلمه لأشنع قتلة وإهانة. فكان كما وصفه بولس: " لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين" (رومية 8/32).

أفما كان له نصيب في هذا الحب؟ ولم يصر النصارى على الحب الممزوج بالدماء؟ هل أرسل الله خالق الكون العظيم ابنه الوحيد إلى هذه البشرية التي لا تساوي في مجموعها كوكباً من الكواكب المتناهية في الصغر، لكي يعاني موتاً وحشياً قاسياً على أعواد الصليب، لترضية النقمة الإلهية - المزعومة - على البشر، ولكي يستطيع أن يغفر للبشرية ذنبها، على شرط أن تعلن البشرية اعترافها بهذا العمل الهمجي؟ هل هذا ما يريد منا النصارى تصوره!
يقول رتشارد هوكنز (1585م) وهو يلاحظ ما يكتنف صلب البريء من القسوة والظلم، فيقول: " فليحسبه البعض جهالة أو جنوناً أو ثورة غضب ... أو مهما كان فإنا نحسبه حكمة وتعزية ".(3)
 
ثم إن كان خطأ آدم قد احتاج لتجسد إله وصلبه من أجل أن يُغفر، فكم تحتاج معاصي بنيه من آلهة تصلب؟ إن جريمة قتل المسيح التي يدعيها النصارى أعظم وأكبر من معصية آدم، وأعظم منها ما نسبه القوم إلى أنبيائهم من القبائح التي لا تصدر إلا عن حثالة البشر.
يقول فولتير: " إذا كانت المسيحية تعتبرنا خطاة حتى قبل أن نولد، وتجعل من خطيئة آدم سجناً للبريء والمذنب. فما ذنب المسيح كي يصلب أو يقتل؟ وكيف يتم الخلاص من خطيئة بارتكاب خطيئة أكبر؟ ".(1)
ولنا أن نتساءل: لم كان طريق الخلاص عبر إهلاك اليهود وتسليط الشيطان عليهم وإغراء العداوة بين اليهود والنصارى قروناً طويلة. إن الحكمة تفرض أن يكون الفداء بأن يطلب المسيح من تلاميذه أن يقتلوه، ويجنب اليهود معثرة الشيطان، ويقع الفداء.
وهكذا أسئلة كثيرة تلح تبحث عن الإجابة، وما من مجيب!
من كتاب هل افتدانا المسيح على الصليب
الدكتور منقذ بن محمود السقار

الهوامش
 (1) الخطيئة الأولى بين اليهودية والمسيحية والإسلام، أميمة الشاهين، ص (141).
(2) انظر : منهجية جمع السنة و الأناجيل، عزية طه، ص (259 – 260).
(3) انظر : المسيح في القرآن والتوراة والإنجيل، عبد الكريم الخطيب، ص (376)، المسيحية الحقة التي جاء بها المسيح، علاء أبو بكر، ص (138 – 139).

http://www.burhanukum.com/article1048.html 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق