الجزء الثالث من حلقات
كشف الشبه عن الإسلام
"نقض
الزعم بأن شريعة الإسلام مشتملة على وحشية، كالقتل والرجم وقطع اليد والجلد
والاسترقاق"
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, أرحم
بعبده من الوالدة بولدها, خلق الخلق برحمته وعدله, وأقام ناموس كونه بحكمته
وقدرته, رب العالمين, وإله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, الرحمة
المهداة, والنعمة المسداة, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, أما بعد:
فهذا هو الجزء الثالث من حلقات كشف الشبه عن
الشريعة الربانية, وهو يعالج ما ألقاه المستشرقون والمستغربون من اتهام شريعة
الإسلام بالقسوة البالغة والوحشية الجاهلية وعدم مراعاة المشاعر البشرية ولا
الكرامة الإنسانية.
لقد عانت الأمم والشعوب ويلات القتل والترويع
وسفك الدماء من عتاة المجرمين، والاعتداء على الأعراض والاغتصاب من زمر
المفسدين، ونهب الأموال وسرقتها من اللصوص، وتـخويف المسافرين وقطع السبل من قطاع
الطرق، وكل مجتمع غاصّ بقصص ومآسي أمثال هؤلاء إذا غاب الرادع ونقص الوازع، فلا يردع هؤلاء إلا
قانون حازم، وقضاء حاسم، وعقوبات زاجرة، فمن أمن العقوبة أساء الأدب، والحق العام
للمجتمع لا يجوز إسقاطه بمبرر الرحمة بالمجرمين والعطف على السفاكين! فمن اعتدى على بريء
واغتصبه وقتله ومثّل به ونهب ماله، فهل من العقل في شيء الاكتفاء بسجنه؟!
لقد كانت العرب تقول: القتل أنفى للقتل، أي
القصاص من القاتل يمنع أمثاله من القتل، ويحفظ المجتمع من الجريمة، ثم جاء الإسلام
فذهب بالغاية والمعنى إلى أبعد من هذا وأسمى وأنبل فقال جل ذكره: "ولكم في
القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون" [البقرة: 179] وفي هذا حكم سامية،
فالتلويح بعقوبة القصاص العادل من القاتل يمنعه من اقتراف جريمته أصلاً، فيحظى
بحياته ويفوز بروحه أولاً ثم يأمن المجتمع من جريمته ثانيًا، وفي هذا غاية العدل
والإحسان.
والواقع
يشهد بذلك، ففي الدول التي تطبق القصاص العادل بدون جور ولا حيف ولا ضعف نجد أن
جرائم القتل فيها أقل بكثير من دول أخرى وإن كانت الثانية أقوى كمًّا وكيفًّا في
أجهزتها الأمنية الظاهرة، فيكفي قتل مجرم واحد قد اقترف جريمة القتل
العمد مع سبق الإصرار والترصد والاختيار كي يأمن مجتمع كامل، والملاحظ أن رعايا
الدول التي تتساهل في العقوبات الجنائية أنهم إذا كانوا في دول حازمة وأراد أحدهم
قتل مواطنه أن ينتظر به خروجه منها إلى بر الأمان من القصاص فإذا عادا لموطنهما
عدا عليه فقتله ويتّم أطفاله ورمّل زوجته وروّع مجتمعه! أما في الدول العادلة التي
تنظر بعين العدالة فلم تنس حق الضحية ولا المجتمع وتؤمن المحاكمة العادلة والتحقيق
المنصف في دولة تطبق شريعة الإسلام فإن من هم بقتل فإنه يتحسس رقبته جيدًا لخوفه
عليها، فيكون خوفه منجاة له ولمن همّ بقتله "ومن أحسن من الله حكماً لقوم
يوقنون" [المائدة: 50] كذلك الحال في قطع الطريق والاغتصاب والسرقة ونحوها من
الجرائم.
إذن فالنظر إلى مسألة الحدود الشرعية واجتزاء
لفظ القتل والرجم وقطع اليد ونحوها وقطعها من سياقها العام الاجتماعي الإنساني
والقانوني والمصلحة العامة؛ يعتبر ظلمًا وقصورًا في النظر، فتطبيق حد واحد من
الحدود يأمن به مليون إنسان ــ من جميع الملل والأديان والأجناس ــ ليس من الوحشية
في شيء، بل ضده أقرب إلى الوحشية والطفولية الفكرية!
فقطع يد السارق مع اكتمال شروط الحدّ وعدم
الشبهة وانتفاء الإكراه وبلوغ النصاب والحرز ونحوه هو عين العدل، فهذه اليد
السارقة هي يد خائنة غادرة قد أرخصها صاحبها، بينا نرى أن هذه اليد عينها إن كانت
أمينة واعتدي عليها فإن ديتها هي نصف دية الجسد كله وهذا لتشريفها بالأمانة
واتضاعها بالخيانة.
وليس في القصاص ولا الحرابة ولا القطع ولا
الرجم وحشية إذا كان بحق، خاصة إذا رأينا الاحترازات الكثيرة التي يطبقها
القضاة المسلمون قبل الحكم بها، فالإسلام هو العدل المطلق والرحمة التامة.
قال الدكتور وديع أحمد فتحي الشماس
الأرثوذكسي السابق: وكان من أسباب إسلامي أنني ذات يوم كنت
مظلومًا من المسيحيين، وكان لي صديق مسلم يجادلني في الدين كثيرًا ــ وهو أحمد
الدمرداش ــ فأخذ يحدثني عن العدل في الإسلام حتى أذهلني لأني لم أجد في المسيحية
ذرة واحدة من جبل العدل في الإسلام ([1]).
علمًا أن الحدود في الإسلام لا تطبق إلا بعد
أمرين:
الأول: أن الشريعة الإسلامية حددت شروطًا دقيقة
حازمة قبل النطق بالحكم، مثل إثبات الجريمة بالبينة والقرائن القاطعة،
وكون المجرم تام السن والعقل، وكونه مختارًا غير مكره، وكونه غير مضطر إلى غير تلك
الشروط والضوابط، بل إنه في تاريخ الإسلام كله منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان لم
تثبت جريمة الزنا بشروطها المعتبرة أبدًا، ولم يطبق فيها حكم واحد ــ حسب علمنا ــ
إنما تثبت باعتراف المذنب بخطيئته وإصراره على الثبات على أقواله طلبًا للتكفير!
ومن تأمل ذلك وجد فيه سرًا بديعًا وحكمًا سامية ورحمة بالمجتمع ومنها منع انتشار الفواحش
في المجتمع المؤمن، فلو لم يُجعل ذلك الحكم الزاجر بشروطه المعتبرة الصعبة لأصبحت
شوارع الناس وأسواقهم مباءات فواحش من قبل عصابات الدعارة، وجر الطاهرين والطاهرات
إلى التشبه بأهل المجون والفسق، ولكن الإسلام طهّر المجتمع من تلك الرذائل، خلا من
وقع تحت جنح الظلام، أو خلف الستور والجدران، فلعله يتوب وينزع ويستغفر ربه ويستتر
بستر الله عليه.
الثاني: إذا بطلت كل الذرائع
القاهرة التي تحول بين الناس وبين الانحراف، ففي عام الرمادة
(المجاعة) لم يطبق المسلمون حد السرقة، فمن ثبت اضطراره لم يقم عليه الحد.
"الردة"
وفي حد الردة نقول ــ كما سبق ــ كما قال
الله :"لا إكراه في الدين" [البقرة: 257] ولا تجيز الشريعة
الإسلامية إجبار أحد على اعتناقها بل كل واختياره ورغبته، أما إن كان المرء قد دخل
في الدين راغبًا ثم خرج منه فهذا هزء بالدين وسخرية وهدمٌ ودعاية سيئة ضده، وهذا مما يزعزعه في
نفوس الناس، لذا وجب حسم مادة الفتنة بقطع دابرها، والتشديد على من أراد هدم الملة
من الداخل.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلاً
أسلم ثم تهوّد، وبما أنه يهودي فلا نستغرب مكره وتهمته في الدخول فيه والخروج منه
لصد الناس عنه ومشاقة لله ومضادة لدينه وانظر مثالاً واقعًا وهو ابن سبأ اليهودي
([2])، فأتى معاذ بن جبل وهو عند أبي موسى فقال: ما لهذا؟ قال: أسلم ثم تهوّد.
قال: لا أجلس حتى أقتله قضاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم([3])، ولعل
معاذًا رضي الله عنه عنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدّل دينه فاقتلوه"([4])،
وكان عمر رضي الله عنه يأمرهم أن يستأنوا ثلاثة أيام بمن فعل ذلك ويحبسوه ويطعموه
لعله يراجع أمره، أو أن يكون عرض له عارض مرضي أو غيره فيزول، فمن عرف الحق وداخله
فالحجة قد قامت عليه أكثر من الذي لم يلجه ولم يجربه ويداخله .
قال الدكتور عبد الكريم زيدان: المرتد هو
الراجع عن الإسلام فهو مسلم ارتكب جريمة الردة وليس غير مسلم تكرهه على الدخول في
الإسلام، ولا يعني هذا إكراهه على الاستمرار على الإسلام لأن المسلم بإسلامه قد
التزم أحكام الإسلام ولا يجوز الإخلال بالالتزام، ويعاقب من أخل بالتزامه بالعقوبة
المناسبة، وبالإضافة لهذا الإخلال فالمرتد قد ارتكب جرائم أخرى منها الاستـخفاف
بعقيدة الأمة ونظامها المرتكز على الإسلام، وفي ردته تشجيعًا للمنافقين لمتابعته
في ردته وحرب الإسلام، وهذا الحكم الشديد للمرتد هو فرع عن حرية التدين؛ لأن
الإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه إلا بعد القناعة التامة والرضا الكامل فيعلن
إسلامه، فإن ارتد ــ فيما بعد ــ فهو إما أنه دخل الإسلام نفاقًا ولمصلحة خسيسة
وبقي الكفر في قلبه؛ فهذا تلاعب بالعقيدة حقيق بالقتل، ولخروجه على النظام العام،
وخيانة للأمة التي ترعاه والدين الذي يحميه، لذا انفرد الإعلان الإسلامي لحقوق
الإنسان عن بقية الإعلانات للدول الأخرى في هذه النقطة، وهي أنه يتعين على
المسلم الثبات على دينه إذا دخله راغبًا مقتنعًا ([5]).
فلابد للدين الحق من دعوة بالحسنى لإدخال
الناس فيه وهدايتهم به واستمتاعهم بمباهجه أولاً وإن احتاج الأمر إلى إزالة
العوائق الحائلة والعوالق المانعة بين الحق وبين القلوب والعقول، وهذا هو الجهاد
الحقيقي الداعي إلى الهداية والإيمان كما قال ربعي بن عامر التميمي رضي الله عنه
لكسرى ملك فارس لما سأله عن قصد المسلمين في حرب الفرس: جئنا لنخرج العباد من
عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق
الدنيا إلى سعة الآخرة. وهكذا فعلوا رضي الله عنهم، وإن الارتداد عن الدين الحق
أعظم جرمًا مما يسمى الخيانة العظمى عند أهل السياسة الذين يحكمون بإعدامه زجرًا
لمن خلفه وتشريدًا لهم عن متابعته فحق الله أعظم من كل ما سواه.
وهل يريد أن يقول منتقد شريعة الإسلام: إن
المجرم الذي نهب واغتصب وقتل العشرات بكل سادية ووحشية تكون عقوبته العادلة السجن
المؤبد (25) سنة، أو حتى مدى الحياة؟! هل يسمي هذه رحمة؟!
كلا إنها ليست رحمة، فليبحث لها عن اسم آخر،
بل إنها غاية الظلم والجور والخيانة للضحية والمجتمع، فالجزاء من جنس العمل، ولو
شرب المنادي بهذا الهتاف من كأس الجريمة الذي شرب منه الضحايا وذووهم لاستفاق من
غفلته وصحا من رقدته، وبالعدل قامت السماوات والأرض، وبالقصاص تشرق شمس العدالة
الحقة لا دعاوى أهل النظر القصير.
ومن زاوية أخرى فأحكام الإعدام التي
تطبقها كثير من الدول عند بلوغ الجريمة مبلغًا خاصًا، أو لتـخفيف غضبة الجماهير،
فإنا نرى في آلية تطبيق أحكام القتل والإعدام قسوة بالغة مقارنة بطريقة القتل
الغالبة في الإسلام، فالأصل في الإسلام أن القتل يكون بضرب العنق بالسيف ضربة
واحدة سريعة مباشرة فيموت فورًا، إلا عند التمكن من قتله بمثل ما قتل به الضحية
قصاصًا متساويًا عادلاً، بعكس القتل عن طريق الكرسي الكهربائي الذي يموت صاحبه عدة
مرات قبل خروج روحه، وكذلك الشنق المفضي أحيانًا إلى الموت البطيء اختناقًا في حال
فشل انقطاع النخاع، كذلك الضرب بالرصاص إن أخطأ الرامي في التصويب المباشر على
القلب.. فأين هذا من الرحمة الإسلامية حتى في طريقة القتل، ورسول الإسلام صلى الله
عليه وسلم يقول: "إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة"([6]).
ومما يبين كمال الشريعة الإسلامية مقارنة
أحكامها بغيرها، فتوراة موسى عليه السلام قد اشتملت على ذكر العدل أكثر من الفضل،
وذكر الفضل في الإنجيل أكثر من العدل، أما القرآن الكريم فقد جمع بينها في غاية
الكمال "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" [النحل: 90]،
فالقرآن بيّن أن السعداء أهل الجنة نوعان: أبرار مقتصدون، ومقربون سابقون، فالدرجة
الأولى تحصل بالعدل؛ وهي أداء الواجبات وترك المحرمات، والثانية لا تحصل إلا
بالفضل، وهو أداء الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات.
فالشريعة الكاملة تجمع العدل والفضل([7]) كقوله تعالى:
"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" فهذا عدل واجب، من خرج عنه
استحق العقوبة في الدنيا والآخرة، ثم قال: "وأن تَصَدَّقوا خير لكم إن كنتم
تعلمون" [البقرة: 280] فهذا فضل مستحب، مندوب إليه، من
فعله أثابه الله ورفع درجته، ومن تركه لم يعاقبه ولم يؤاخذه.
وقال تعالى: "ومن قتل مؤمناً خطأً
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله" فهذا عدل، ثم قال: "إلا أن
تصَدّقوا" [النساء: 92] فهذا فضل.
وقال تعالى: "والجروح قصاص" فهذا عدل، ثم قال: "فمن
تصدّق به فهو كفارة له" [المائدة: 45] فهذا فضل.
وقال تعالى: "وإن طلقتموهن من قبل أن
تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم" فهذا عدل، ثم قال: "إلا أن
يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل
بينكم" [البقرة: 237] فهذا فضل.
وقال تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل
ما عوقبتم به" فهذا عدل، ثم قال: "ولئن صبرتم لهو خير
للصابرين" [النحل: 126] فهذا فضل.
وقال تعالى: "وجزاء سيئة سيئة
مثلها" فهذا عدل، ثم قال: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" [الشورى: 40]
فهذا فضل.
والله تعالى في القرآن الكريم يحرّم الظلم ويوجب
العدل ويندب إلى الفضل، كما في آخر سورة البقرة لما ذكر حكم الأموال
وحال الناس معها؛ إما محسن وإما عادل وإما ظالم([8]).
ولم تكن شريعة التوراة
في الكمال مثل شريعة القرآن الكريم، فإن القرآن فيه ذكر المعاد وإقامة الحجج عليه
وتفصيله، ووصف الجنة والنار، ما لم يذكر مثله في التوراة، كذلك في ذكره لقصة هود
وصالح وشعيب وغيرهم من الأنبياء ما لم يذكر في التوراة، وفيه من ذكر أسماء الله
الحسنى وصفاته، ووصف الملائكة وأصنافهم، وخلق الإنس والجن، وتقرير التوحيد بأنواع
الأدلة، وذكر أديان أهل الأرض، ومناظرة المخالفين وإقامة البراهين على أصول الدين،
ما لم يذكر مثله في التوراة، مع أنه لم ينزل كتاب من السماء أهدى من القرآن
والتوراة([9]) وفي شريعة القرآن تحليل الطيبات، وتحريم الخبائث، وشريعة التوراة
فيها تحريم كثير من الطيبات عليهم عقوبة لهم، وفي القرآن من قبول الدية في الدماء
ما لم يشرع في التوراة، وفيه من وضع الآصار والأغلال التي في التوراة ما يظهر به
أن نعمة الله على أهل القرآن أكمل([10]).
وأما الإنجيل فليس فيه شريعة مستقلة، ولا فيه
الكلام عن التوحيد، وخلق العالم، وقصص الأنبياء وأممهم، بل أحالهم على التوراة في
أكثر الأمر، ولكن أحلّ المسيح بعض ما حرم عليهم، وأمرهم بالإحسان والعفو عن
الظالم، واحتمال الأذى، والزهد في الدنيا، وضرب الأمثال لذلك، فعامة ما امتاز به
الإنجيل عن التوراة بمكارم الأخلاق الحسنة، والزهد المستحب، وتحليل بعض المحرمات،
وهذا كله في القرآن،وهو في القرآن أكمل.
فليس في التوراة والإنجيل من العلوم النافعة،
والأعمال الصالحة، من الهدى ودين الحق مثل ما في القرآن.
ثم نقول للذي انتقد حدود الإسلام ــ كحد
الردة مثلاً ــ ووصفه بالبشاعة والاستبداد وقمع الرأي الآخر: هل الأعظم حرمة الدين
أم حرمة الدنيا؟ لا شك أن الدين أعظم حرمة وحق الله أعظم من حقوق عباده، والدين
متعلق بغاية الخلق، وحكمة الوجود، ومن أجله خلقت الجنة والنار، ونصبت الموازين،
وأنزلت الكتب وأرسلت الرسل([11])، وبما أننا نرى نظام الدنيا والماديات المحسوسة
لا يستقيم إلا بإثبات العقاب على المخالف، فتسن الأنظمة والتشريعات والعقوبات لضبط
الحياة، فكيف بالحياة الحقيقية وهي حياة الدين؟!
ونقاشنا هذا مع المقر بوجود الله تعالى، مع
أن جميع البشر موقنون بهذا في قرارة نفوسهم "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
ظلماً وعلواً" [النمل: 14] بل حتى عتاة الملاحدة من الفلاسفة قالوا: ضجيج
الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات.
والقول
بحرية الدين لازم للقول بحرية الدنيا من باب أولى. ولا يعرف هذا إلا من
نظر نظرة شمولية للغاية من الخلق، وقَرَن الآخرة بالدنيا، لذلك فمن صلاح المسلم أن
يُمنع من الخروج عن دينه إعانة له على الخير، وربما في بقائه ولو مكرهًا ــ بعض
الوقت ــ خيرٌ له، فقد تنجلي الشبهة، وتضعف الشهوة، ويستقيم القلب مرة أخرى على
جادة الهدى([12]) لذلك فالحكم حاسم في الشريعة: "من بدل دينه فاقتلوه"([13])،
وكم ممن ترك ذنبًا خوفًا من عقوبة الدنيا ثم مرت الأيام وحمد الله على ذلك لقناعته
بخطئه، وكم ممن يكره الحق ثم لا يلبث بعد ممارسة أن يكون أحب الأشياء إليه، وأخبر
صلى الله عليه وسلم عن قوم يدخلون الجنة في السلاسل([14]).
"الجزية"
هذا ومن السهام الموجهة نحو الإسلام: القول
بتعسفه في إجراء الجزية على المخالفين في الدين. وهذا خلط عجيب للأمور
ويتضح ذلك بما يلي:
أولاً: أن هذا الذمي الذي سكن
بلاد المسلمين هو معدود من رعاياهم، وبما أن عليهم تجاهه مسئوليات كحمايته وحراسته
والدفاع عنه _ وتأمل قصة استرجاع ابن تيمية الأسرى الذميين من قازان لما أسرهم_
وتأمين حاجاته، ففي المقابل لابد أن يقابل هذا الإحسان والجهد بشيء من المعاوضة ــ
الرمزية ــ وإن كانت أقل بكثير من المستحق، كذلك فهي تسقط عن العاجز والفقير الذمي
بل يحظى بالرعاية والكفالة، كما رأى عمر ذميًا فقيرًا فأسقط عنه الجزية
وتكفل له بالرعاية من بيت مال المسلمين، وهذه هي الشريعة الإسلامية القائمة على
الرحمة والإحسان أولاً ثم العدل والمقابلة بعد ذلك.
ثانيًا: أن هذه الجزية هي أقل
مما يؤخذ من المسلم في مقدار الزكاة، وأقل نسبة مما يؤخذ من الضرائب في كثير من
الدول المعاصرة، فأين مالت الكفة إذن؟!
ثالثًا: ــ وهو المهم ــ أن
الغرض من الجزية ليس جمع المال ولا التعسير على أهل الذمة، بل الهدف منها سام جدًا،
ألا وهو الهداية للدين القويم والصراط المستقيم؛ فالهدف من الوجود هو
عمارة الآخرة بعبادة الله تعالى والإيمان به، والاستقامة على دينه، لذا فمن رفض
هذا الدين الذي به سعادته الحقيقية ونجاته المحتومة، فمن رحمة الله تعالى به أن لا
يقتل حتى لا تتلف نفسه ويخسر آخرته، وتفوت فرصة نجاته، وحتى لا يدخل في الدين
نفاقًا فيكون الإفساد حينها أشد، لذلك فاكتفى بإذلاله بالجزية قرعًا لقلبه،
وإيقاظًا لفكره، ليراجع نفسه، وينظر في مصلحته الحقيقية، وهذه غاية سامية وحكمة
نبيلة، قال تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" [التوبة: 29]
فإذا أحس بالنقص بادر إلى تكميل نفسه حتى يكون ندًا لكل الناس، فبعد نطقه
بالشهادتين فقط يكون مباشرة مسلمًا كباقي المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، في
الحقوق والواجبات. إذن فالغرض تنبيهه لخطأ طريقه، وليس الغرض إذلاله ولا أخذ
دراهمه، لذلك لما كتب عمر بن عبد العزيز بمثل ذلك إلى والي مصر، أجابه: إذن يسلموا
كلهم، ولا يبقى لنا ما نأخذه عليهم من الجزية، فأمر عمر بن عبد العزيز بضرب ذلك
الوالي ثلاثين سوطًا، وقال كلمته المشهورة: "وددت لو أن كلهم قد أسلم، فإن
الله بعث محمدًا داعيًا ولم يبعثه جابيًا"([15]).
"الحريّة والكرامة"
ولا أعلم قيمة تعاور البشر على إبرازها
والمناداة بها كالحرية والكرامة, وإذا تنادى الناس للحرية وللكرامة، نقول لهم: لن
تكون هناك حرية حقيقة إلا في ظل شريعة الإسلام التي أعطت كل ذي حق
حقه، ووازنت بين مصالح الفرد والجماعة، فصالح الجماعة عائد أصلاً إلى الفرد في
المقام الأول، ولا عكس، لذا كانت مراعاتها أولى. وهل أبلغ وأعدل وأكرم من قول الله
تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم"(الإسراء: 70)؟
وأي نظام غير الإسلام هو في حقيقته يقسم
الناس ــ ولو باطنًا ــ إلى ملّاك وعبيد، سواء العالم الرأسمالي _وقد ظهرت بوادر سقوطه
باحتجاجات العامة للخلاص من ربقته_أو الشيوعي _ وقد سقط منذ زمن قريب، وتبرأ منه
من كانوا بالأمس يقاتلون دونه!_
أما في الإسلام فالجميع
أحرار، فيولدون أحرارًا ولو فقراء، ويبقون أحرارًا إلى أن تنتهي آجالهم وهذه أول
فقرة في وثيقة حقوق الإنسان العالمية، وما عليهم إلا أن يكملوها بضبطها بتشريعات
الإسلام لو كانوا يهتدون . لذلك فمقدمي أعداء الإسلام هم مقدمي أعداء الفقراء...
وتأمل!
ومع تطبيق العدل الشرعي الإسلامي يستمتع
الناس، حتى غير المسلمين ممن استظلوا بظل الإسلام وعدالته، فيرحل القبطي من مصر
إلى المدينة ليشكو إلى عمر رضي الله عنه ضربة عصا لحقت بولده من ابن والي مصر
المسلم حين غلبه الشاب القبطي في السباق، وهو الذي كان إلى عهد قريب تلهب ظهره
سياط الرومان فلا يحس بآدميته المسلوبة ولا يتحرك للشكوى، ولمن يشكو أصلاً لو
أراد؟! ولكن العدل الرباني المتمثل في شريعة الإسلام الخالدة هو الذي جعل ضربة
العصا توجع الكرامة، وتحرّك الرجل ألوف الأميال طلبًا للنَّصَف، ورفعًا للمظلمة،
وردًّا للكرامة، ويُجاب الرجل إلى حقه، وينصف ممن ظلمه ولو كان ابن الوالي تحقيقًا
للعدل الرباني الإسلامي([16]).
ويصيح بها عمر هادرة صاخبة ويصرخ في الوالي،
وقد أعطى السوط للمظلوم آمرًا له بالاقتصاص من ظالمه: اجلد ابن الأكرمين، متى
استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! فهل في شرائع الأرض ما يضاهي هذا
العدل الفريد؟!
بل حتى أمير المؤمنين نفسه ــ أعلى سلطة في
الحكم ــ ليس له الحق في أخذ ما يريد، فهو على الناس كناظر الوقف على مال اليتامى
ينظر الأصلح لهم، ولا يأخذ من بيت المال إلا بإذنهم ومشورتهم، بل يجلس في المحكمة
كأي فرد من العامة إذا كان طرفًا في قضية، فهذا أمير المؤمنين
علي رضي الله عنه يجلس مع خصمه اليهودي عند القاضي شريح، متهمًا اليهودي بسرقة
درعه وهو الصادق البار الراشد ــ فيقول له القاضي بحسم: يا أمير المؤمنين: هل من
بينة؟ فيقول: لا، فيحكم القاضي بالدرع لليهودي مع علمه بصدق علي رضي الله عنه،
ولكن لا محاباة بدون دليل وبرهان "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"[النساء: 58].
قالت شاعرة الهند ساروجني ندو: يعتبر الإسلام أول
الأديان مناديًا ومطبقًا للديمقراطية(بل هو أرقى منها كثيرًا)، وتبدأ هذه
الديمقراطية من المسجد خمس مرات في اليوم الواحد عندما ينادى للصلاة، ويسجد القروي
والملك جنبًا إلى جنب اعترافًا بأن الله أكبر، ما أدهشني هو هذه الوحدة غير
القابلة للتقسيم، التي جعلت كل رجل أخًا للآخر بشكل تلقائي.
"الرق"
أما الكلام عن الرق، فنحن نتعجب ممن يصم به
الإسلام خاصة ممن ينتسب إلى الأمم النصرانية الأوروبية أو الأمريكية، وقد فعلوا
بأهل أفريقيا ما فعلوا، وطاردوهم في الأحراش والأدغال والقرى
كالحيوانات وقيدوهم بالسلاسل والأغلال، ثم حملوهم وكدّسوهم فوق بعضهم في سفن
البضائع، وألقوا كثيرًا منهم لأسماك البحر لموتهم بسبب الجوع أو الضرب أو المرض،
أو بإلقائه حيًا لترويع البقية، بإلقاء المقاومين في البحر! وأعماق الأطلنطي
وأحراش أفريقيا وصحارى أمريكا ووهاد أوروبا تشهد بذلك الإجرام الممنهج.
وعلى كلٍّ فالجواب على مسألة الرق
من وجهين:
الأول: أن الخلق كلهم ملك لله
تعالى، ولا يخرج أحد منهم عن ملكيته سبحانه، فهو يحكم فيهم بما يشاء،
وقد اقتضت حكمته الربانية أن من تمرد عليه، وعبد غيره، واستكبر عن عبادة إلهه
الحقيقي، وسيده الحق، ومولاه المبين، وملكه الأبدي، أن يحكم عليه بأن يسترقّه
مخلوق ضعيف مملوك مثله، فيسترق بدنه دون روحه، لذلك فمن أشد المحرمات في الإسلام
استرقاق من خضع لله تعالى ولم يخرج عن عبوديته له.
ثانيًا: وبعد تلك العقوبة
الإلهية على من لم يرض به إلهًا وربًا فقد فتح له باب الحرية على مصراعيها، وجعل
له الكثير من المخارج من الاسترقاق البشري؛ فقد حث الإسلام
الأسياد على عتق مماليكهم ابتداءً، وجعل العتق من أعظم القرب إلى الله تعالى، ووعد
الله تعالى بعتق كل عضو من السيد من النار جزاء عتقه مملوكه لوجه الله، كذلك شرع
في الإسلام باب الكفارات وجعل أفضلها وأعظمها على الإطلاق عتق المماليك والعبيد،
فجعلها كفارة القتل والظهار واليمين والوطء في نهار رمضان وغيرها.
فابتدأ أولاً بالحث على العتق، وثانيًا بإيجاب العتق وتحتمه
وجعله كفارة لبعض الخطايا المعيّنة، وثالثًا فتح للمماليك باب
المكاتبة بأن يشتروا أنفسهم من أسيادهم بمبالغ مالية على أن يسمحوا لهم بالتكسب
للوفاء بما عليهم ليتحرروا، وحث الأسياد على قبول طلبهم للمكاتبة. كذلك فليس العتق
في الإسلام خاصًا بمن أسلم من المماليك، بل حتى غير المسلمين يُشرع عتقهم، وكم من
أرقاء أسلموا بعد عتقهم لما رأوا سماحة الإسلام، وتشنّفه لحرية الجميع.
وإن من نافلة القول بيان أن استشهادنا ببعض
أدبيات الأمم الأخرى لا يعنى الإعجاب والانبهار بما لديهم _مع تسجيل شهادة الحق
لكل من قال بها_ غير أن في شهادتهم للحق محفزة لبعض بني قومنا بصدقية دينهم الذي
رغبوا عن كثير من كمالاته والله المستعان.
والحمد لله الذي هدانا
لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله, لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
إبراهيم الدميجي
@aldumaiji
16
ربيع الأول 1434
http://aldumaiji.blogspot.com/
...............................
([1]) في كتابه رد شبهات
النصارى (ص280)
([2]) وانظر منهاج السنة
النبوية، ابن تيمية (1/ 23ــ 30).
([3]) البخاري (6923).
([4]) البخاري (6922).
([5]) باختصار وتصرف من بحث
الدكتور ناصر الميمان المقدم للدورة (19) لمجمع الفقه الإسلامي الدولي.
([6]) رواه مسلم.
([7]) انظر: الجواب الصحيح
(5/ 59ــ 77).
([8]) البقرة (261ــ 263).
([9]) الجواب الصحيح (5/
72).
([10]) وانظر: درء تعارض
العقل والنقل، ابن تيمية (5/ 79).
([11]) ينظر: درء تعارض العقل
والنقل (1/ 383).
([12]) انظر: العقلية
الليبرالية، عبد العزيز الطريفي (ص209).
([13]) البخاري.
([14]) مسلم.
([15]) انظر: أحكام أهل
الذمة، ابن القيم.
([16]) انظر: مذاهب فكرية
معاصرة (ص226، 227).