"بَيْنَ حَضَارَتَيْن"
الحمد لله الملك العلام, ذي الطول والإنعام, لا
يُرام عِزّه, ولا يُضام ملكه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن
محمداً عبد الله ورسوله, أمر بالحق وبه عدل, وشيد الحضارة في القلب والعقل, وحرر البشرية
من ربقة العبودية لغير مولاها, ودرب التبعية لسوى رسولها ودليلها المصطفى, ونبيها
المجتبى, صلى الله عليه وآله وصحبه ما تعاقب الفرقدان, وتتابع النيران. وبعد:
فلئن افتخرت أمم بتاريخها, واستطالت بمجدها,
فلأمة الإسلام من ذلك الحظ الأوفى, والسبق الأزهى. ألا وإن من المستَغربات غفلة جلّ
أبناء الأمة عن ذلك, وجهلهم بباسق ما هنالك, فإن ذكروا الحضارة المدنية فقبلتهم
الغرب, وان استلهموا التجريبية أضاعوا الدرب, ولم يتذكروا:
بلغنا السماءَ مجدُنا
وجدودُنا ** وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهرا
وفي هذا المقال سأتناول شيئاً من تيك المآثر,
ونحواً من تلك المناظر, علّها تغسل لَوَثَ الإعجاب بالأغيار, وترفعُ من همّة مستحلية
العار. وليس في هذا إقراراً لخنوعنا, ولا مجاراة لخمودنا, اللهم غفراً! لكنه من
باب قدح زند العزائم, وإيقاظ أشباه النوائم, وإرغام أنف الشامت بالأمة والشائن, وأكثرها
نقول عن الأفاضل. والله من وراء القصد, وهو ولي التوفيق.
ونحن قوم لا توسط
بيننا **
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في العالي
نفوسنا ** ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
قال العلامة الدكتور سفر الحوالي شفاه الله
تعالى وأحسن لي وله وللقارئ الختام,محللًا حضارة أوروبا
فيما قبل وبعد الحداثة، ومقارنًا بينها وبين حضارة الإسلام العظيمة ومثبتًا أن
المسلمين هم من علّموا أوروبا أصول الحضارة وقيمها، وألهموا إبداعها الصالح دون
الفاسد، ووضعوا عقولها على درج التحرر من ربقة التقليد والجمود: «إن الله تعالى قدر أن يكون لهذه القارة الصغيرة ذات البيئة
القاسية (أوروبا) أثر كبير في تاريخ الجماعة البشرية كلها وأن تتولى قيادة ركب الغواية في صراعه الأبـدي مــع
ركــب الإيمـان الذي قدّر الله أن يكون معتصمه بلاد التين والزيتون وطور سينين والبلد الأمين. والاستكبار على الله
والشرود عن دينه الذي بلغت به المجتمعات الغربية
المعاصرة
غايته لم يأت عَرضًا وإنما هو وليد قرون من الصراع والتـخبط ثم الجموح والتمرد، فقد كان منبت الحضارة الأوروبية من
القاع الذي اجتمعت فيه رواسب الحضارات الجاهلية
البائدة (سومرية، آشورية، فرعونية، إغريقية،
رومانية)
بعد تصفية كل الحضارات من آثار النبوات وبقايا الرسالات، حيث استبعدت أو طمست أية إشارة إلى توحيد الله عز وجل وإلى
رسله الكرام وكتبه المنـزلة، ونفض الغبار عن
الأوثان القديمة وشرك القرون الأولى.
ذلك
أنه في ظل الحضارة الجاهلية الأخيرة (الرومانية) اعتنقت أوروبا نصرانية بولس المنسوبة زورًا إلى المسيح عليه
السلام،
وحينما أعلن ذلك الإمبراطور قسطنطين سنة (325م)
وانتقلت عاصمة الإمبراطورية من روما إلى
بيزنطة
(القسطنطينية) وشاء الله تعالى أن يلي مرحلة مفجعة من تاريخ أوروبا الغربية وهي المرحلة الممتدة من سنة (410م) ــ أي
سقوط روما بأيدي البرابرة ــ إلى (1210م) ــ
أي تاريخ ظهور أول ترجمة لكتب أرسطو في أوروبا ــ ثمانية قرون كاملة من التيه
والضلال اصطلح المؤرخون الغربيون على تسميتها أو جزء منها عصور الظلمات، وأفاضوا
في الحديث عن الانحطاط الكامل حينئذ
في
الثقافة والعلم والفن وكل جوانب الحياة، إلا جانبًا واحدًا
شذ عن ذلك وهو الدين حيث توغلت النصرانية في
الممالك البربرية الوثنية، وكان ذلك
العصر
هو العصر الذهبي لانتشار النصرانية في أوروبا كلها، وأسست كنائس وأنظمة رهبانية
جديدة.
وحدث
هذا التناقض الحاد (انهيار الحضارة العلمية وانتشار هائل للدين) وهذا ما أدى لأن
يجاهر بعض المؤرخين ومنهم كبير تلك الفترة
ادوارد جيبون بالقول: إن سبب انهيار الإمبراطورية الغربية هو تحولها
من الوثنية إلى النصرانية، وبالطبع لم تقل الشعوب الأوروبية حينئذ مثل
هذا ولكن في اللاشعور ارتبطت الوثنية بالحضــارة والقــوة
وارتبط الدين بالهزيمة
والانحطاط، وهو ما كان له آثار بعيدة المدى في علاقة أوروبا بالدين ــ أعني دينها ــ أما
الإسلام؛ فإنه لما كان الرومان عامة يعدّون كل من عداهم من الشعوب برابرة، ولما كان البابوات ورجال
الكنيسة يعدون الإسلام
وثنية اتفق الموردان في النظرة القاتمة إلى العالم الإسلامي، وامتـزجت العنصرية القديمة بالحقد
الديني الجديد.
مع أننا لو انتقلنا إلى واقع الحياة الإسلامية حينئذ، وعقدنا مقارنة بين الدينين
والحضارتين لوجدنا البون شاسعًا والفرق بعيدًا:
أولًا: لم يكن لدى أوروبا مركز حضاري يمكن أن
يسمى مدينة بالمفهوم السائد عن
المدن
فيما بعد، وأكبر ما كانت تعرفه هو بيزنطة وروما اللتان لم
تكونا سوى قريتين
متأخرتين إذا قورنتا بالمدن العالمية آنذاك: بغداد، دمشق، القاهرة، قرطبة…الخ.
ثانيًا: لم يؤلف في أوروبا خلال تلك الحقبة
كتاب علمي على الإطلاق، في حين
نجد
الواحد من علماء المسلمين يكتب العشرات، وربما المئات من المصنفات في فنون المعرفة
جميعًا، وإذا كانت أوروبا تعد ظهور ترجمة كتب أرسطو بداية الخروج من عصر الظلمات
فإن الفضل يرجع إلى رجل ليس
أوربيًا ولا نصرانيًا بل هو ابن رشد
المتوفى
سنة (1198م). ومن هذا المنطلق العنصري وبتلك الرواسب الجاهلية انتقلت أوروبا ببطء من عصر الظلمات البربري إلى عصر الظلمات الصناعي، وصولًا
إلى المرحلة المعاصرة من الظلمات المتراكمة، واستمر القدر الإلهي ألا تعتنق أوروبا
الإسلام "وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على
الذين لا يعقلون" [يونس: 100].
هذا مع أن أساس نهضتها كان إسلاميًا، وأن العربية كانت لغة العلم
فيها إلى القرن الثامن عشر، وأن جامعاتها إنما قامت مجاراة للجامعات الإسلامية. وليت
الأمر وقف عند هذا الحد، غير أن ما فعلته أوروبا كان أفظع من
مجرد التعصب لوثنيتها وترك
الاهتداء بهدى الله، فقد تعدى ذلك إلى العدوان
العسكري
المتواصل أبدًا على الإسلام وأهله، والوقوف الدائم مع كل عدو لهم وإن كان عابد حجر أو بقر!
لقد كان إجحافًا أن تنظر أوروبا للمسلمين
النظرة إلى البرابرة (القوط، النورمانديين، الفايكنج)
بلا أدنى اختلاف، لكن أنكى منه أن تتداعى القارّة
طولًا
وعرضًا شرقًا وغربًا وتهب هبة رجل واحد لتحرير الأراضي المقدسة من البرابرة الجدد ــ زعمت ــ!
وهكذا كانت الحملات الصليبية، وكانت الصدمة
الحضارية التي لم تنسها أوروبا لحظة واحدة من عمرها:
1ــ أوروبا التي لا تعرف المدن تحاصر مدنًا
هي صغرى في محيط الحضارة الإسلامية
لكن
بعضها يبلغ عشرة أضعاف روما عاصمة المتحضرين المقدسة!
2ــ أوروبا التي لم تعرف العلم قرونًا، بل
لم تعرف كتابًا إلا الإنجيل، ولا
قارئًا
إلا القسيس، تذهل للمكتبات الهائلة التي تـختـزنها المدن الصغرى من عامة وخاصة، وفي كل فنون المعرفة من الفلك إلى النقد
الأدبي!
3ــ أوروبا
التي لا تستطيع أن تستغفر ربها أو تصلي له أو تقدم له قربانًا إلا بتوسط البابا وكهنته، ولا تستطيع أن تقرأ كتابها المقدس
ولا تفسره أو تترجمه إلى لغة حية، تجد كتاب الله
الأخير (القرآن الكريم) في الشرع الإسلامي المتحضر
يتلوه
الملايين في المساجد والبيوت، والكل يعبدون رب العالمين بلا واسطة مخلوق.
4ــ أوروبا
التي يعيش (99 %) من أهلها عبيدًا ورقيق أرض وفلاحين، لا يستطيع أحدهم أن
يتنفس الهواء خارج إقطاعيته، وإن حاول ذلك كان عقابه الكي بمياسم عريضة تطبع
العبودية على جبينه مدى الحياة، تجد الناس في الشرق الإسلامي يعيشون ويتنقلون
أحرارًا في أرض الله الواسعة من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، ويتاجرون
مع جنوب أفريقية والدول الإسكندنافية، وربما مع جزر الكاريبي!
5ــ
أوروبا
التي كان أفضل نموذج لوحدتها هو حكومات الكوميون في إيطاليا، تجد الشرق المسلم يعيش أرقى النظم الإدارية في ممالك تبلغ
مساحتها مساحة القمر!
6ــ أوروبا التي يحكمها الأباطرة حكمًا
استبداديًا مطلقًا ويعتقد الرعايا أن
القيصر
من نسل الآلهة، وأن الله هو الذي أعطاه هذا الحق قدرًا وشرعًا، وأورثه السلالة المقدسة
تفاجأ بالمسلمين وسلاطينهم من الترك تارة ومن الكرد أخرى، ومن المماليك ثالثة،
والكل بشر في نظر سائر البشر.
7ــ
أوروبا
الغارقة في الهمجية والوحشية التي تحرق المخالفين وهم أحياء، وتتفنن في تعذيب المنشقين وإذلال المقهورين، ولا تعرف عهدًا ولا
ميثاقًا، تبهرها الأخلاق الإسلامية في الحرب
والسلم على سواء.
8ــ أوروبا التي ما كانت تحسب العالم إلا
أوروبا، والتي تسمي الوصول إلى شيء من
أطراف
الشرق اكتشافًا، وظلت هكذا إلى القرن التاسع عشر، فوجئت
بالمسلمين
يجوبون الدنيا شرقًا وغربًا تجارًا ورحالة ودعاة بكل تواضع وهدوء، لقد وصلوا إلى أجزاء من شمال أوروبا قبل أن
تعرفها أوروبا نفسها، هذا عدا العالم الشرقي الهائل
السعة بالنسبة لها برًا وبحرًا،وبالمساجد التي اكتشفت في جزر الكاريبي،
وصرخ كولمبس حين رآها: «يا إلهي!! حتى اليابان فيها مساجد!» إلا إحدى الشواهد على هذا.
9ــ أوروبا التي كانت تتداوى بمركبات من
الروث والبول وأشلاء الحيوانات، تفاجأ بالعالم الإسلامي زاخرًا بالمستشفيات
والمعامل القائمة على منهج التجربة و الاستقراء مع
الخبرة والحدس، في التشريح والتشخيص والجراحة
وتركيب
الدواء، وكل ذلك مدوّن في موسوعات ضخمة ظلّت المصدر الأول لنهضة الطب الحديث، ولا زالت رافدًا متجددًا له.
والنزعة الإنسانية في الحضارة الغربية مدينة
كليًا للحضارة الإسلامية، ولا ينحصر ذلك في الأثر الأدبي كما في اقتباسات أبرز
ممثليها وهو دانتي من أبي العلاء المعرّي وابن طفيل، بل يشمل العصر كله، حتى أن الإمبراطور
فردريك الثاني ــ وهو أكبر أباطرة
القرون الوسطى بإطلاق، ويعتبر لدى بعض المفكرين أول المحدثين ورائد النهضة ــ كان
يتكلم العربية، وكان بلاطه عربي العلم واللسان، حتى أنه لما قابل الملك الكامل
الأيوبي للصلح لم يحتج إلى مترجم، ولهذا اتهمته الكنيسة بالإسلام، وسمته الزنديق
الأعظم!
أما حركة الإصلاح الديني فلم تولد مع لوثر
وكالفن، بل لها جذور عميقة الصلة بالإسلام، لا يستطيع أي باحث أوروبي أن يغفلها
مهما قلل من شأنها، ومنها حركة تحطيم الصور والتماثيل التي اجتاحت الإمبراطورية
البيزنطية في أوائل القرن الثامن الميلادي، أي بعد قرن تقريبًا من ظهور الإسلام، وممن
آمن بذلك وأصدر مرسومًا عامًا الامبراطور ليو الثالث.
أما التجريب الذي تُعزى إليه نهضة أوروبا
العلمية عامة فإن باعثه هو التساؤل العقلي... ولم يكن صعود جاليليو إلى البرج
وإسقاط جسمين متماثلين في الوزن إلا تدليلاً على بطلان قول أرسطو في ذلك، وارتفاع
التجربة الحسية على الفكر المجرد.
ومن هنا فإن الفكر
الإسلامي، والسني بخاصة الذي رفض فكر أرسطو رفضًا مطلقًا، ودعا ــ وفقًا لصريح
القرآن الكريم ــ إلى نبذ تقليد السالفين، والتأمل في ملكوت السماوات والأرض،
والنظر في آيات الله الآفاقية والنفسية، هو أصل تقدم الإنسانية الحالي كلها، وما
فعله جاليليو بالنسبة لحركة الأجرام السماوية ما هو إلا جزء من الأثر الإسلامي السنّي
الذي شمل العالم، وصرع المنطق الصوري الإغريقي في الشرق قبل أن تتـخلص أوروبا منه
بعدة قرون...».بتصرف من: مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة، د. سفر
الحوالي (ص1ــ 9).
وقال الدكتور علي محمد الصلابي مبينًا الآثار
الحسنة لدعوة المسلمين للمسيحيين في عصر الحروب الصليبية وتطور المسيحية الحضاري
بسبب احتكاكهم بأهل الإسلام: «فمن آثار ذلك:
1ــ دخول أعداد كبيرة من النصارى في
الإسلام، ومنهم القواد والساسة والقساوسة والعامة... وذكر أمثلة كثيرة.
2ــ تأثر النصارى بعادات المسلمين وأخلاقهم
وتقاليدهم، ومن أمثلة ذلك ما يتعلق باللباس، وقد اشتكى
أحد قساوسة عكّا في رسائله للبابا من تشبه المسيحيين بالمسلمين في زيّهم، وفي
طريقة حياتهم، ومن ذلك تقليد المسيحيات للمسلمات في الحجاب والاحتشام والوقار.
واستفاد المسيحيون من المسلمين العناية بالنظافة،
وقد كانت غير ذات أهمية لهم قبل اختلاطهم بالمسلمين، وذكر توماس أرنولد عن بعض
مؤرخي حروب أوروبا الصليبية: «وكان الصليبيون يعيشون
كالحيوانات، ولا يغسلون أبدانهم ولا ثيابهم التي لا ينزعونها إلا إذا تمزقت» وبعد
اختلاطهم بالمسلمين اكتسبوا عادات النظافة الحميدة، فتردد الكثير منهم على
الحمامات العامة في الشام ومصر، حتى الرهبان والراهبات الذين يعتكفون في كنائسهم
وأديرتهم، مما جعل أحد مقدميهم واسمه جاك دوفتري يحتج على خروج الراهبات من
الأديرة مخالفات بذلك تعاليم شريعتهن! وقد ساق أسامة بن منقذ نماذج من استغرابهم
اهتمام المسلمين بالنظافة، ومحاولتهم التشبه بهم في ذلك، وترددهم على الحمامات
العامة للرجال والنساء لهذا الغرض.
ومن العادات الحميدة التي اكتسبوها من
المسلمين الغيرة على النساء، وقد كانت هذه الغيرة شبه مفقودة لديهم، قال أسامة بن منقذ واصفًا مشاهداته: «ليس
عندهم شيء
من الغيرة والنخوة، يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته، يلقاه رجل آخر يأخذ المرأة
ويعتزل بها، ويتحدث معًا والزوج واقف ينتظر فراغهما من الحديث، فإذا طوّلت عليه
مضى وتركهما» وقد زادت نسبة الغيرة والنخوة لديهم في
الجيل الثاني لهم بعد ولادتهم بين المسلمين.
ومنهم من تشبه بالمسلمين حتى في الطعام،
فترك أكل الخنزير مثلاً.
ومن أهم ما اكتسبوه من المسلمين حسن التعامل
ولين الطباع، وقد لاحظ أسامة بن منقذ ذلك في مقارنته بين
الجدد والقدامى، فقال: «فكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنجية أجفى أخلاقًا من
الذين عاشروا المسلمين».
كذلك تأثروا بهم في الزواج، فكثير منهم تزوج
بأكثر من واحدة، كذلك تعلموا اللغة العربية، وهذه الأحوال في الشام صار مثلها في
الأندلس، فرفع المسلمون من القيمة الحضارية للفرد المسيحي».
وقال الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني رحمه
الله في كتابه (كواشف زيوف) (ص40): «لقد صرخ علماء الغرب في قومهم بوجوب تعلم لغة العرب حتى ينبغوا، وقد أثارت الغيرة بتراك فقال لقومه: «أنتم تتوهمون أنه لن ينبغ
أحد بعد العرب! نحن ضاهينا اليونان والأمم، وسبقناهم في بعض الأحيان، وأنتم تقولون
الآن: إننا لن نضاهي العرب!».
ثم أورد وثيقة تاريخية شاهدة على سبق
المسلمين العلمي للغرب، ورغبة الغرب في اقتباس العلم منهم، وهي رسالة من جورج الثاني ملك إنجلترا والغال والسويد والنرويج إلى
هشام الثالث الخليفة الأندلسي المسلم، ونص الوثيقة: «بعد التعظيم والتوقير قد
سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم
العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل،
لتكون بداية حسنة في اقتفاء آثاركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل
من أركانها الأربعة، ولقد وضعنا ابنة شقيقتنا الأميرة دوبانت على رأس بعثة
من بنات أشراف إنكلترا لتتشرف بثلم أهداب العرش، والتماس العطف لتكون مع زميلاتها
موضع عناية عظمتكم، وحماية الحاشية الكريمة. من خادمكم المطيع جورج. م. أ».
وفي كتاب (محاضرات من تاريخ العلوم) تأليف
الدكتور فؤاد سزكين، ما مضمونه: «إن شبرجس أثبت بالأدلة أن الجامعات التي نشأت
فجأة في أوروبا منذ القرن الثالث عشر الميلاد قد كانت كلها تقليدًا مطلقًا
للجامعات الإسلامية».
وانظر كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب)
تأليف زينغريد هونكة، فقد ذكرت في كتابها الفريد شهادات ومشاهدات للأثر الإسلامي
النبيل والمد المحمدي الأصيل وأثره على قيام الحضارة الأوروبية الجديدة، سواء في
العلم والفكر أو الصناعات والتجريب والطب والهندسة والفلك وغيرها.
قال روجر بيكون: «من
أراد أن يتعلم فليتعلم العربية» مذاهب فكرية (ص71).
ولك أن تتأمل
الفروق بين الحضارات الإنسانية المختلفة في إمبراطورياتها الواسعة عبر الزمان
الطويل، سواء في عهد الفينيقيين أو الإغريق أو الرومان أو التتر أو الهند أو الصين
ثم قارن ذلك كله بالحضارة الإسلامية التي امتدت كمًّا وكيفًا، فكمًّا قد
رفرفت راياتها المنصورة وامتد سلطانها الواسع على ثلثي العالم آنذاك، أي ما يعادل
مساحة سطح القمر، فمن الجنوب كان ساحلها بحر العرب والبحر الهندي، وشمالاً آسيا
الصغرى وشرق أوروبا، وغربًا المحيط الأطلنطي (الأطلسي) الذي وقفت خيل المسلمين على
ساحله وتقدم قائدهم خائضًا المحيط بقوائم فرسه قائلاً: «والله لو أعلم أن أحدًا
خلف هذا البحر لخضته إليه حتى يصل إليه الإسلام»، وشرقًا حتى سور الصين العظيم،
ولما علم إمبراطور الصين عن قَسَمِ أمير المسلمين أن يطأ بقدمه أرض الصين، أرسل
إليه بطبق ذهب قد ملأه من تراب الصين وكتب إليه: «أوف بقسمك وطأ على هذا التراب
فهو من أرض الصين» وطلب المصالحة والمسالمة.
ولما رأى هارون
الرشيد سحابة مارة خاطبها قائلاً بثقة: «أمطري أنّى شئتي فسيأتيني خراجك» وهو صاحب
الرد الحاسم على نقفور ملك الروم حين أرسل له هذا الأخير رسالة ليبطل فيها أمر
ملكته السابقة بدفع الجزية للمسلمين، فكان رد هارون الرشيد: «من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم، الجواب ما
ترى لا ما تسمع!» ثم سيّر جيشًا أوله عند الروم وآخره عنده، ولما صاحت
المرأة المسلمة في عمورية: وامعتصماه! بعد إذلالها من المسيحيين، أجاب أمير
المؤمنين المعتصم نداءها بجيش جرار سحق به من تعدى عليها وعلى كرامتها، بل حتى في
الخلافات بين المسلمين تكون المظلة لهم هي الإسلام، فحينما اختلف علي ومعاوية رضي
الله عنهما، أراد ملك الروم أن يزحف على أطراف الشام، فرد عليه معاوية رضي الله
عنه برد زلزلة، وفيه: «والله لئن لم تندفع عنا لأصطلحن مع
ابن عمي ثم لنغزونك إلى مخدعك» فطارت وساوس الرومي، وقبلها قال أبو بكر
الصديق رضي الله عنه لما بلغته جحافل الروم في اليرموك التي فاقت (240.000) ووقفت أمام جيش السلمين الذي لم يتجاوز (27.000) ــ أى أن الروم يفوقون المسلمين بتسعة أضعاف ــ
فقال كلمته المشهورة: والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، فولاه على المسلمين
الصادقين فنصر الله عباده وأولياءه ففتح الله بتلك الأيدي المؤمنة الطاهرة
المتوضئة المصليّة العابدة القانتة بلاد الشام، وعاد التوحيد لبلد الأنبياء ومهاجر
الخليل عليهم السلام بعد أن غاب عنها قرونًا على أيدي رهبان الليل وأسد النهار رضي الله عنهم.
وانظر إلى أوروبا الشرقية والغربية
والجنوبية واستذكر حوادث تلك السنين حين فتح الإسلام شرق أوروبا وبعض وسطها وحاصرت
الجيوش المسلمة فيينا، وأقبلت على باريس، وفتحت إيطاليا مع جميع جزر البحر
المتوسط.
هذا وكل هذا الامتداد الكمّي رافقه وسبقه
ولحقه امتداد معنوي، وهو الغاية النبيلة والقصد الكريم لتلك الجيوش الفاتحة للقلوب
قبل البلدان، فقد تحولت تلك الشعوب في زمن يسير لهذا الدين العظيم السماوي الخالد.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي
الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها» مسلم (2889)،
وكل هذا مصداق وعد الله تعالى له وللمؤمنين حيث قال سبحانه وبحمده: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز" [الحج: 74]، وقال سبحانه: "إنا لننصر رسلنا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد"[غافر: 51].
شاهد المقال: أن تلك الشعوب الموفقة دخلت
راغبة مختارة في الإسلام، سواء المسيحيين في الشام ومصر وأوروبا كالألبان، أو
الوثنيين في أفريقا وآسيا، وما هذا إلا لقوة الإسلام المعنوية الذاتية المؤيدة من
الله تعالى، وإجاباته الشافية الكافية لكل أسئلة الحيارى الباحثين عن الحق والهدى،
ومناعته ضد الشبه الملقاة عليه من أعدائه، ولمّا مرّت الأمة الإسلامية بضعف في
بنيتها العسكرية، واستعمرتها جيوش المغول (التتار) لم تلبث تلك الجيوش الغالبة إلا
يسيرًا حتى اعتنقت هذا الدين القويم، قد بهرتهم حقائقه وإيمانياته وقوته، وانسجامه
مع الروح والجسد وجمعه بين الدنيا والآخرة.
اللهم أقم علم الجهاد, واقمع أهل الشرك
والزيغ والفساد, وأبرم للأمة أمر رشد, يعز فيه أهل الطاعة, ويذل فيه أهل المعصية,
ويؤمر فيه بالمعروف, وينهى فيه عن المنكر, يا سميع الدعاء. اللهم وأصلح أحوال
المسلمين ديناً ودنيا وأخرى, وردهم إليك رداً جميلاً, وأسبل أمنتك وسكينتك ورحمتك
ونصرك لأهلنا في سوريا وبورما وفي كل مكان, يا حي يا قيوم ياذا الجلال والإكرام يا
رب العالمين. وصل اللهم وسلم وبارك وأنعم على محمد وآله وصحبه.
إبراهيم الدميجي
28/ 8/ 1433