الخميس، 21 مارس 2013

الأسبابُ العشرة المانعةُ من العقوبة


"الأسبابُ العشرة المانعةُ من العقوبة"

    الحمد لله الغفور التواب الرحيم, وسع كل شيء رحمة وعلماً, شرع لعباده أسباب الرحمة, ونوّع لهم طرائق المغفرة, وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه, أرحمُ الراحمين وخيرُ الغافرين وأكرمُ الأكرمين وأحكم الحاكمين, سبقت رحمتُه غضبه, وحلمُه مؤخذته, وعفوه عقوبته, ووسعت رحمته كل شيء, فلله الحمد كله أولُه وآخره, علانيته وسره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, وصفيه وخليله, وكليمه وكريمه, بشّر وأنذر وبيّن وأوضح, وبلّغ البلاغ التام المبين, وتركنا على البيضاء لا يزيغ عنها بعده إلا ضالّ هالك, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعليه آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان, أما بعد:

    فإن من رحمة الله تعالى أنه جعل لذنوب العباد مكفّرات مسقطات لعقوبته أو مخففات لمُوجب مَساخِطه, حريّ بكل ناصح لنفسه مبتغ لسعادتها أن يفقهها ويعمل بها حتى إذا جاءه اليقين كان عند ربه من المفلحين.

أما والله لو علم الأنامُ   ...   لِمَا خُلقوا لما غفلوا وناموا

لقد خُلقوا لما لو أبصرته  ...   عيون قلوبهم ساحوا وهاموا

مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ   ...   وتوبيخٌ وأهوالٌ عظامُ

ليوم الحشر قد عملت عبادٌ   ...   فصلَّوا من مخافته وصاموا

ونحنُ إذا أُمِرنا أو نُهينا   ...   كأهل الكهفِ أيقاظٌ نيامُ

    فيا أقدام الصبر تحمّلي فقد بقي القليل, تذكّري حلاوة الدّعة يهُن عليكِ مُذُ السُّرَى, قد علمت أين المنزل؛ فاحدُ لها تَسِرْ. وإن هممت فبادر, وإن عزمت فثابر, واعلم أنه لا يُدرك المفاخر من رضي بالصفِّ الآخر!

    وقد ذكر تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى عشرة أسباب مانعة من العقوبة بإذن الله تعالى, وقد ذكرها في عدة مواضع من كتبه في الفتاوى وغيرها, وقد رأيت أن أجمع موضع لها وأحسن عرض هو ما سطّره في منهاج السنة النبوية (6/205_235) وسأذكرها باختصار وتصرّف لاقتضاء المقام لذلك, مع إضافات من مواضع أخرى له, قال رحمه الله تعالى:

     السبب الأول: التوبة, فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له, والتوبة مقبولة من جميع الذنوب الكفر والفسوق والعصيان, قال الله تعالى: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف" وقال تعالى: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين" وقال تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا اله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم . أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم" وقال سبحانه: "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق"  قال الحسن البصري رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرم والجود, فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار ثم هو يدعوهم إلى التوبة.

     والتوبة عامة لكل عبد مؤمن كما قال تعالى: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً . ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما" وقد أخبر الله في كتابه عن توبة أنبيائه ودعائهم بالتوبة كقوله عز وجل: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم" وقولِ إبراهيم وإسماعيل: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمه مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم" وقال موسى: "أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين . واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك" وقوله: "رب إني ظلمت نفسي فأغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم" وكذلك ما ذكره في قصة داود وسليمان وغيرهما. وأما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فكثير مشهور, وأصحابه كانوا أفضلَ قرونِ الأمة فهم أعرف القرون بالله وأشدهم له خشية, وكانوا أقومَ الناس بالتوبة في حياته وبعد مماته.

    والله سبحانه يرفع عبده بالتوبة, وإذا ابتلاه بما يتوب منه فالمقصود كمال النهاية لا نقص البداية, فإنه تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين, وهو يبدّلُ بالتوبة السيئاتِ حسنات, والذنبُ مع التوبة يوجب لصاحبه من العبودية والخشوع والتواضع والدعاء وغير ذلك ما لم يكن يحصل قبل ذلك, ولهذا قال طائفة من السلف: إن العبد ليفعل الذنب فيدخلَ به الجنة, ويفعل الحسنة فيدخلَ بها النار, يفعل الذنب فلا يزال نصب عينيه إذا ذكره تاب إلى الله ودعاه وخشع له فيدخل به الجنة, ويفعل الحسنة فيُعجب بها فيدخلَ النار. وفي الأثر: "لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أعظم من الذنب وهو العُجْب" وفي أثر آخر: "لو لم تكن التوبةُ أحبَّ الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرمَ الخلق عليه" وفي أثر آخر يقول الله تعالى: "أهل ذكرى أهلُ مُجالستي, وأهلُ شكري أهل زيادتي, وأهلُ طاعتي أهلُ كرامتي, وأهل معصيتي لا اقنّطُهم من رحمتي, إن تابوا فأنا حبيبهم, فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين, وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم, أبتليهم بالمصائب لأطهّرهم من المعايب" والتائبُ حبيبُ الله, سواء كان شاباًّ أو شيخاً.

     السبب الثاني: الاستغفارُ, فإن الاستغفارَ هو طلب المغفرة, وهو من جنس الدعاء والسؤال, وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمورٌ به, لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو, وقد يدعو ولا يتوب, وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي, فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب, ثم عاد فأذنب فقال: أي ربِّ اغفر لي ذنبي, فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب, ثم عاد فأذنب, فقال: أي رب اغفر لي ذنبي, فقال تعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي" والتوبة تمحو جميع السيئات وليس شيء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة, فإن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء, وأما التوبة فإنه قال تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم" وهذه لمن تاب, ولهذا قال: "لا تقنطوا من رحمة الله" وقال: بعدها: "وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون" وأما الاستغفار بدون التوبة فهذا لا يستلزم المغفرة, ولكن هو سبب من الأسباب.

    السبب الثالث: الأعمالُ الصالحة, فإن الله تعالى يقول: "إن الحسنات يذهبن السيئات" وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل يوصيه: "يا معاذ اتق الله حيثما كنت, وأتبع السيئة الحسنة تمحها, وخالق الناس بخلق حسن" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" أخرجاه في الصحيحين, وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" وقال: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال: "أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل فيه كلَّ يوم خمسَ مرات هل كان يبقى من دونه شيء" قالوا: لا, قال: "كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا كما يمحو الماء الدرن" وهذا كلّه في الصحيح وقال: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار" رواه الترمذي وصححه, وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . يغفرْ لكم ذنوبَكم ويدخلْكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبةً في جنات عدن ذلك الفوز العظيم" وفي الصحيح: "يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين" وما رُوي أنَّ شهيد البحر يُغفر له الدَّيْنُ فإسناده ضعيف والدَّيْنُ حقٌّ لآدميٍّ فلابد من استيفائه, وفي الصحيح: "صومُ يومِ عرفةَ كفارةُ سنتين, وصومُ يومِ عاشوراء كفارة سنة"

    ومثل هذه النصوص كثير وشرح هذه الأحاديث يحتاج إلى بسط كثير, فإن الإنسان قد يقول: إذا كُفَّرَ عنّى بالصلوات الخمس فأي شيء تكفِّرُ عني الجمعة أو رمضان وكذلك صوم يوم عرفة وعاشوراء؟ وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجدْ ما تكفّره من السيئات, فيقال: أولاً: العملُ الذي يمحو الله به الخطايا ويكفر به السيئات هو العمل المقبول, والله تعالى إنما يتقبل من المتقين. قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" قال: أخلصُهُ وأصوبه, قيل: يا أبا علي, ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل, وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل, حتى يكون خالصاً صواباً, والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة. فصاحب الكبائر إذا اتقى الله في عمل من الأعمال تقبل الله منه, وَمَنْ هو أفضلُ منه إذا لم يتقِ الله في عمل لم يتقبله منه وإن تقبّل منه عملاً آخر. وإذا كان الله يتقبل ممن يعمل العمل على الوجه المأمور به, ففي السنن عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد لينصرفُ عن صلاته ولم يُكتب له منها إلا نصفُها إلا ثلثُها إلا ربعُها" حتى قال: "إلا عشرها" وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلتَ منها. وفي الحديث: "رُبَّ صائم حظه من صيامه العطش, ورب قائم حظه من قيامه السهر" وكذلك الحج والجهاد وغيرهما, وفي حديث معاذ موقوفاً ومرفوعاً وهو في السنن: "الغزوُ غزوانِ, فغزو يُبتغى به وجهُ الله, ويطاعُ فيه الأمير, وتنفقُ فيه كرائمُ الأموال, ويُياسَرُ فيه الشريكُ, ويُجتنبُ فيه الفسادُ, ويُتقى فيه الغُلُولُ؛ فذلك الذي لا يعدله شيء, وغزوٌ لا يبتغى به وجهُ الله, ولا يُطاعُ فيه الأمير, ولا تنفقُ فيه كرائمُ الأموال, ولا يُياسرُ فيه الشريك, ولا يُجتنبُ فيه الفسادُ, ولا يُتقى فيه الغُلولُ؛ فذاك حَسْبُ صاحبه أن يرجع كفافاً" وقيل لبعض السلف: الحاجُّ كثير, فقال: الدَّاجُّ كثيرٌ, والحاجُّ قليل. ومثلُ هذا كثير, فالمحوُ والتكفيرُ يقعُ بما يُتقبلُ من الأعمال, وأكثرُ الناس يقصّرون في الحسنات, حتى في نفسِ صلاتهم, فالسعيدُ منهم من يُكتب له نصفها! وهم يفعلون السيئاتِ كثيراً فلهذا يُكَفّرُ بما يُقبل من الصلوات الخمس شيءٌ, وبما يُقبل من الجمعة شيءُ, وبما يُقبل من صيامِ رمضان شيءٌ آخر, وكذلك سائرُ الأعمال. وليس كلُّ حسنةِ تمحو كلَّ سيئة, بل المحوُ يكون للصغائر تارة, ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة._فالحسنة الكبيرة تكفّر السيئة الكبيرة_ والنوع الواحدُ من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يُكمل فيه إخلاصَه وعبوديتَهُ, لله فيغفرَ اللهُ له به كبائرَ, كما في الترمذي وابنِ ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُصاحُ برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق, فينشرُ عليه تسعةٌ وتسعون سجلاً, كلُّ سجل منها مدَّ البصر فيقال: هل تنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب, فيقول: لا ظُلمَ عليك, فتُخرجُ له بطاقةٌ قدرُ الكفِّ, فيها شهادةُ أن لا إله إلا الله, فيقول: أين تقعُ هذه البطاقةُ مع هذه السجلاتِ؟ فتُوضعُ البطاقةُ في كِفّّه والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات" فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص, وإلا فأهلُ الكبائر الذين دخلوا النار كلُّهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله, ولم يترجَّحْ قولُهُم على سيئاتهم, كما رجح قولُ صاحب البطاقة, وكذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه فيها العطش, فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج, فإذا كلب يلهثُ يأكلُ الثرى من العطش, فقال الرجل: "لقد بلغ هذا الكلبُ من العطش مثلُ الذي كان بلغَ منِّي, فنزل البئرَ فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رَقَيَ فسقى الكلبَ فشكرَ اللهُ له فغفر له" وفي لفظ في الصحيحين: "إن امرأةً بغيًّا رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانَه من العطش, فنزعت له مُوقَهَا فسقته به, فغُفِرَ لها" وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي في طريق, وجد غصن شوك على الطريق فأخَّره, فشكر الله له فغفر له"

     وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت أمرأة النار في هرة ربطتها, لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت" فهذه سقتِ الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغُفر لها, وإلا فليس كلُّ بغيٍّ تسقي كلباً يُغفرُ لها. وكذلك هذا الذي نحّى غصنَ الشوك عن الطريق فعله إذ ذاك بإيمان خالصٍ وإخلاصٍ قائمٍ بقلبه فغُفر له بذلك, فإن الأعمالَ تتفاضلُ بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص, وإن الرجلين ليكونُ مقامُهما في الصف واحداً وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض, وليس كل من نحّى غصن شوك عن الطريق يُغفرُ له, قال الله تعالى: "لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤُها ولكن يناله التقوى منكم" فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا والله لا ينالُه الدمُ المُهراقُ ولا اللحمُ المأكولُ والتّصدّقُ به, لكن يناله تقوى القلوب. وفي الأثر: "إن الرجلين ليكونُ مقامَهما في الصفّ واحداً وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب" فإذا عُرفَ أن الأعمالَ الظاهرة يَعظُمُ قدرُها ويصغرُ قدرُها بما في القلوب, وما في القلوب يتفاضلُ, ولا يعرف مقاديرَ ما في القلوب من الإيمان إلا الله؛ عَرَفَ الإنسانُ أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم كلُّه حق ولم يضرب بعضه ببعض. وقد قال تعالى: "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبُهم وجلةٌ أنّهم إلى ربهم راجعون" وفي الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله, أهو الرجل يزني ويسرقُ ويشربُ الخمر, ويخافُ أن يُعاقب؟ قال: "لا يا ابنة الصديق, بل هو الرجلُ يصومُ ويصلى ويتصدق, ويخافُ أن لا يُتَقبّلَ منه" وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدُكم مثلَ أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه" وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقلَّةِ أهله وكثرة الصوارف عنه, وضعفِ الدواعي إليه, لا يمكن لأحدٍ أن يحصل له مثلَه ممن بعدهم, وهذا يعرفُ بعضه من ذاق الأمور وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس, وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة. وهذا مما يُعرف به أن أبا بكر رضي الله عنه لن يكونَ أحدٌ مثلَه, فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحدٌ, قال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام, ولكن بشيء وقر في قلبه. وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول مؤمنين به مجاهدين معه إيمانٌ ويقينٌ لم يَشرَكْهُم فيه مَنْ بعدهم, وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنه للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنه لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون"

    والمقصود أن فضلَ الأعمال وثوابَها ليس لمجردِ صورِها الظاهرة, بل لحقائقها التي في القلوب, والناس يتفاضلون في ذلك تفاضلاً عظيمًا.

    السبب الرابع: دعاءُ المؤمنين له, فإن دعاءَ المؤمنين واستغفارَهم للمؤمن, كذلك صلاتَهم على الميت ودعاءَهم وشفاعتهم له من أسباب المغفرة. كذلك استغفار الملائكة له وشفاعتهم, وقد وردت بذلك عدة آيات وأحاديث.

     السبب الخامس: دعاءُ النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره في حياته وبعد مماته, كشفاعته يوم القيامة, فإن رسول قد استغفر لأمته إبّان حياته, وسيشفع لمن أذن له له من أمته يوم القيامة, وقد تواترت عنه أحاديث الشفاعة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" والشفاعة إنما تُطلب من الله, فنسألُ الله أن يشفّع فينا نبيه صلوات الله عليه وسلامه وبركاته.

    السبب السادس: ما يُفعل بعد الموت من عمل صالح يُهدي له, مثلُ من يتصدّقُ عنه ويحج عنه ويصوم عنه, فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ذلك يصل إلى الميت وينفعُه, وهذا غيرُ دعاءِ ولدِه فإن ذلك من عمله وكسبه بخلاف غيره, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقةِ جارية, أو علمِ يُنتفعُ به, أو ولدٍ صالح يدعو له" رواه مسلم.

     السبب السابع: المصائبُ الدنيوية التي يُكفّرُ الله بها الخطايا, كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما يصيبُ المؤمنَ من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا غمٍّ ولا همٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذى, حتى الشوكةَ يشاكُهَا؛ إلا كَفَّر الله بها من خطاياه" وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَثَلُ المؤمنِ مِثْلُ الخامةِ من الزرع تُفيئُها الرياحُ, تقوِّمُهَا تارةً, وتُميلُها أخرى, ومثل المنافق كمِثْلِ شجرة الأَرْزَةِ _وهي الصُّنَوبَر_ لا تزال ثابتةً على أصلها حتى يكونً انجعافُها مرّة واحدة" وهذا المعنى متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة.

     وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة, سألتُه أن لا يُهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها, وسألتُه أن لا يُسلّط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحَهُم فأعطانيها, وسألتُه أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه لما نزل قولُهُ تعالى: "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك" "أو من تحت أرجلكم" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك" "أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضَكم بأس بعض" قال: "هذا أهون وأيسر" فهذا أمر لا بد منه للأمة عموماً.

    السبب الثامن: ما يُبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة والرّوعة وفتنة الملكين, وإن للقبر لضمّة لو نجا منها أحدٌ لنجا سعدُ بن معاذ.

     السبب التاسع: ما يحصلُ له في الآخرة من كرب أهوال يوم القيامة, وهي شديدة جداً, وكُرَبِ القيامة لا تشبهُها كُربٌ, كالفزع والحشر وإدناء الشمس على الخلائق والعطش وجوازِ الصراط المنصوب على متن جهنّم وغير ذلك, كذلك اقتصاص الله تعالى لعباده المؤمنين من بعضهم قبل دخول الجنة, وفي الصحيحين أن المؤمنين إذا عَبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيُقتصُّ لبعضهم من بعض, فإذا هُذِّبُوا ونقُّوا أُذن لهم في دخول الجنة. والله المستعان.

    السبب العاشر: رَحْمَةُ اللَّهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعِبَادِ. فنسأل الله الكريم من فضله ونعوذ به من سخطه وعقابه, فهذه الأسباب قد جعلها رحمة لعبادة لمنع أو تخفف عنهم العذاب.

    اللهم إن رحمتك أرجى من أعمالنا, ومغفرتك أوسع من ذنوبنا, فاغفر لنا وارحمنا, إنك أنت الغفور الرحيم, وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وآله.

إبراهيم الدميجي

9/ 5/ 1434

http://aldumaiji.blogspot.com/

الخميس، 14 مارس 2013

فَضائلُ أُمَّةِ الإسْلامِ


فَضائلُ أُمَّةِ الإسْلامِ

لك الحمد اللهم أن جعلتنا من خير الأمم وأنزلت إلينا أجلّ الكتب وبعثت إلينا سيد الرسل, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمداً أفضل عبيد الله وخاتم أنبيائه ورسله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه. أما بعد:

فهذه الأمة المسلمة المهديّة المرحومة قد خصها الله تعالى بأمور وأسبقها على غيرها بمزايا ورفعها على غيرها من الأمم قاطبة على سبيل الإجمال, وجمع لها من خيري الدنيا والآخرة مالا يخطر على بال متفكر ويقصر عنه ذهن متدبر. ومن ذلك أن أكمل شريعتهم وأتمها وصيرهاجامعة للمحاسن. "كنتم خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران: 110)

قال شيخ الإسلام رحمه الله في معرض بيانه لهدايات نبي هذه الأمة وخصائصه ودلائل رسالته وكمالات شريعته: «وهو في كل وقت يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويشرّع الشريعة شيئًا بعد شيء، حتى أكمل الله دينه الذي بُعث به، وجاءت شريعته أكمل شريعة، لم يبق معروف تعرفه العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل: ليته لم يأمر به، ولم ينه عن شيء فقيل: ليته لم ينه عنه، وأحل الطيبات ولم يحرّم شيئًا منها كما حُرّم في شرع غيره، وحرّم الخبائث ولم يحل شيئًا منها كما استحله غيره، وجمع محاسن ما عليه الأمم، فلا يُذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر، إلا وقد جاء به على أكمل وجه، وأخبر بأشياء ليست في الكتب، فليس في الكتب إيجاب لعدل وقضاء بفضل وندب إلى الفضائل وترغيب في الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه.

وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها، وعبادات غيره من الأمم؛ ظهر فضلها ورجحانها، وكذلك في الحدود والأحكام وسائر الشرائع»( الجواب الصحيح (5/ 441).).

                ودينه الإسلام محفوظ بكل تفاصيله بحفظ الله تعالى له، وقد تعرض لهجمات من شتى الأمم لم يتعرض لها دين أهل الكتاب ولا غيرهم، فشنّوا عليه هجمات عسكرية واقتصادية وفكرية وأخلاقية وعقدية على جميع محاور الغزو التي لا يستطيع البشر ــ مهما كانت إمكاناتهم ــ التصدي لها والحفاظ على دينهم من التبديل والضياع لولا تولي الله تعالى حفظه والعناية به، فهو الدين الذي بقي رغم تتابع القرون، وتغير الأحوال، وتوارد الأهوال شامخًا ظاهرًا شاهدًا على الأمم، قارعًا لنواميسهم وعقولهم وقلوبهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «والله ليتمن الله هذا الأمر»( سنن أبي داود)، وقال: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر»( رواه أحمد وصححه الألباني). وقد قال تعالى: "إنا لننصر رسلنا في الحياة الدنيا ويوم تقوم الأشهاد" [غافر: 51].

فهم ظاهرون على غيرهم بالحجة والبيان وبالسيف والسنان، ولا تزال لهم بقية يفيئون إليها، يحفظ الله بها دينه، وإن تنقلوا من مكان لآخر كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة»( متفق عليه) فنسأل الله أن يجعلنا منهم وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هداها.

              وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله بسنده أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء، فقال هرقل وهو على أنطاكية لما قدمت الروم منهزمة: ويلكم أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم؟ أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن. قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونظلم، ونفسد في الأرض. قال: أنت صدقتني.

وعن فضائل هذه الأمة العظيمة _أي أمّة الإجابة_ قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة، فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم، وإن قيس دينهم وعباداتهم وطاعتهم لله بغيرهم؛ ظهر أنهم أدين من غيرهم، وإذا قيست شجاعتهم وجهادهم في سبيل الله، وصبرهم على المكاره في ذات الله؛ ظهر أنهم أعظم جهادًا وأشجع قلوبًا، وإذا قيس سخاؤهم وبذلهم وسماحة نفوسهم بغيرهم؛ تبين أنهم أسخى وأكرم من غيرهم، وهذه الفضائل بنبيهم صلى الله عليه وسلم نالوها ومنه تعلّموها، وهو الذي أمرهم بها، لم يكونوا قبله متبعين لكتاب جاء هو بتكميله كما جاء المسيح بتكميل التوراة، فكانت فضائل أتباع المسيح عليه السلام وعلومهم بعضها من التوراة، وبعضها من الزبور _قلت: وهو كتاب داود عليه السلام، ويسمى في العهد القديم (المزامير) وإن كان كثير منها مكذوبًا عليه_ وبعضها من النبوات _قلت: كالأسفار المنسوبة لسائر الأنبياء في العهد القديم، أما التوراة فهي الأسفار الخمسة الأولى المنسوبة إلى موسى عليه السلام ودخلها تحريف وتبديل كبيرين_ وبعضها من المسيح _قلت: كما ينسب إليه في الأناجيل الأربعة الأولى من العهد الجديد ومن غيرها كإنجيل برنابا وتوما ويهوذا ومريم وغيرها_ وبعضها ممن بعده كالحواريين _قلت: كسفر أعمال الرسل ورسائل بولس ــ وليس من الحواريين ــ ويعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا_ وقد استعانوا بكلام الفلاسفة وغيرهم _قلت: كما هو ظاهر في إنجيل يوحنا ورسائل بولس وغيرها خاصة في شروح الكتاب المقدس_ حتى أدخلوا ــ لما غيّروا دين المسيح ــ في دين المسيح أمورًا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح عليه السلام _قلت: كتأليه المسيح وغيره، والتثليث، وتحليل الخمر والخنزير، وإبطال الختان، وإبطال الناموس وغير ذلك_.

وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا قبله يقرؤون كتابًا، بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته، فهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء ويقرّوا بجميع الكتب المنزلة من عند الله، ونهاهم أن يفرقوا بين أحد من الرسل، فقال تعالى في الكتاب الذي جاء به: "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم" [البقرة: 136، 137].

وأمته لا يستحلون أن يأخذوا شيئًا من الدين من غير ما جاء به، ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فلا يشرعون في الدين ما لم يأذن به الله.

فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أخذوه عن نبيهم _قلت: حتى صاروا نبراسًا منيرًا لأمتهم في الخير والهدى, كما قال المستشرق بودلي: «كان المسلمون كالغيث يخصب المكان الذي يسقيه، وإن عصر الإحياء في أوروبا ليرجع إلى أحفاد صحابة محمد الذين حملوا مشعل الثقافة»_ مع ما يظهر لكل عاقل أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية، ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم هو من الأصل المعلم. وهذا يقتضي أنه كان أكمل الناس علمًا ودينًا، وهذه الأمور توجب العلم الضروري بأنه كان صادقًا في قوله: "إني رسول الله إليكم جميعاً" [الأعراف: 158] ( الجواب الصحيح (5/ 428- 441)، وانظر: (6/ 1ــ 46)

هذا وكل نقص مادي ومعنوي في المسلمين ــ وقد ظهر جليًا في هذا الزمن المتأخر ــ فسببه بُعد المسلمين عن علوم وأعمال دينهم الأصلية، وحقائق دينهم الصافي الذي لم تلوّثه البدع ولم تدخله المحدثات والأهواء, فظهورهم وعزهم ونصرهم مرتبط طردًا وعكسًا بمسافتهم من هذا الدين الخاتم القويم.

وقال تقي الدين رحمه الله: «والمسلمون وسط بين اليهود والنصارى، فمن تدبر حال اليهود والنصارى مع المسلمين وجد اليهود والنصارى متقابلين، هؤلاء في طرف ضلال، وهؤلاء في طرف يقابله، والمسلمون هم الوسط.

           وذلك في التوحيد والأنبياء والشرائع والحلال والحرام والأخلاق وغير ذلك، فاليهود يشبّهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص المختصة بالمخلوق التي يجب تنزيه الرب سبحانه عنها كقول من قال منهم: إنه فقير "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق" [آل عمران: 181]) وكفرهم بقولهم: بخيل "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً" [المائدة: 64]) وبهتانهم بأنه تعب لما خلق السماوات والأرض "ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب" [ق: 38])

            والنصارى يشبّهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي ليس له فيها مِثْلٌ، كقولهم: إن المسيح هو الله "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" [المائدة: 17])، أو ابن الله "وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون" [التوبة: 30])، وكل من القولين يستلزم الآخر، والنصارى أيضًا يصفون اللاهوت بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب عنها، ويسبون الله سبًا ما سبه أحد من البشر _قلت: ويكفي في ذلك وصفهم لله باتـخاذ الصاحبة والولد، وبعضهم يذكر أمورًا لا تذكر لإيغالها في البشاعة والشناعة_.

واليهود تزعم أن الله يمتنع منه أن ينسخ ما شرعه، والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله.

أما المسلمون فوصفوا الرب بما يستحقه من صفات الكمال ونزهوه عن النقص، وأن يكون له مثل، فوصفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، مع علمهم أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصر فلا شيء مثله لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وهو ينسخ ما نسخ من شرعه وفق حكمته، وليس لغيره أن ينسخ شرعه.

            واليهود بالغوا في اجتناب النجاسات وتحريم الطيبات، والنصارى استحلوا الخبائث وملابسة النجاسات. وقد ذكر الدكتور رؤوف حبيب يمتدح القديس أنطونيوس ويعدد مناقبه: «لم يغتسل طوال حياته الرهبانية أبدًا، كما لم يدهن جسده بالزيت...» تاريخ الرهبنة والديرية (ص39).

    وقال الأستاذ ساجد مير: «ظل ملوك أوروبا الكبار وزعماء المسيحية العظماء قرونًا طويلة لا يعرفون أهمية الاغتسال، وكانت القصور الكبيرة بدون حمامات، وحين تعلم العالَمُ المسيحي التحضّر من العرب والمسلمين الأسبان، وبعد النهضة العلمية؛ عرفوا كيف تكون النظافة في المدن والمساكن والبيوت وكيف تُطهّر الأجساد وتزيّن، وإلا فكانوا قبل ذلك يعدّون النظافة ضد التدين وحب الإله!، وكان مما يشتهر بين بعض الطبقات: أن لا يغسل الإنسان وجهه ولا يديه أبدًا» المسيحية (ص322، 323).

     وقال الطبيب الفرنسي علي بنوا: «مما أبعدني عن الكاثوليكية؛ التغافل التام عن النظافة قبل الصلاة» موسوعة مقدمات العلوم والمناهج، أنور الجندي (8/ 172).

    وقال الدكتور حسان شمسي باشا: «إن الكاثوليك كانوا يعتقدون أن ماء المعمودية الذي يغتسلون به عند ولادتهم يغنيهم عن الاغتسال طوال الحياة» هكذا كانوا يوم كنا، د. حسان شمسي باشا (ص92)

      والمسلمون أحل الله لهم الطيبات خلافًا لليهود، وحرم عليهم الخبائث خلافًا للنصارى.

واليهود إذا حاضت المرأة عندهم لا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى يستحلون وطئها وهي حائض. والمسلمون يرون طهارة جسدها ويحرمون الوطء فقط.

والنصارى لهم عبادات وأخلاق بلا علم ولا معرفة، واليهود لهم علم ومعرفة بلا عبادات ولا أخلاق حسنة، والمسلمون جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح.

واليهود قتلوا النبيين، والنصارى اتـخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم.

                 والمسلمون اعتدلوا فآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله فلم يكذبوا الأنبياء، ولا سبّوهم، ولا غلوا فيهم، ولا عبدوهم، فهم يعتقدونهم عبيد لله فلا يعبدون، ورسل لله فيجلّون ويتبعون»( ينظر الجواب الصحيح (1/ 59ــ 71، 2/ 133ــ 136، 3/ 100ــ 125).

وهذه الأمة المحمدية هي أفضل الأمم وأكرمها على الله، وثلثي أهل الجنة منها، وهي أول الأمم دخولاً الجنة، وتضاعف لأهلها الحسنات أكثر مما تضاعف للأمم الأخرى، وخصائصها كثيرة (ينظر لتفصيل ذلك: هادي الأرواح لابن القيم).

             وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ وتأمل احتفاءه بالمسيح عليهما الصلاة والسلام ــ: «الأنبياء إخوة لعلّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجلاً مربوعًا إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصّران _أي مصبوغان بالصفرة_ كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، وتقع الأمنة على الأرض، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون" رواه أحمد (2/ 406)، وأبو داود (4/ 499)

            وفي أحاديث آخر الزمان أن الملاحم الكبار بين أهل الإسلام ومخالفيهم _ولعل ما يحدث في الأرض المباركة الآن هو إرهاص لتيك الملحمة_ والتي ستكون أولاً بين المسلمين والصليبيين على عدو من خلفهم، فيُنصرون، ثم يغدر الصليبيون بالمسلمين، فيقتتلون في مرج دابق _في شمال سوريا بين حلب وأنطاكية_ فينتصر المسلمون، ثم يخرج الدجال الأعور فيكون أول خروجه من جزيرة في البحر، ثم يذهب للمشرق فيتبعه من أهل خراسان أقوام وجوههم كالمجانّ المطرّقة، ويتبعه من يهود أصبهان سبعون ألفًا _وتقع أصفهان في إيران حاليًا ويهودها كُثُر ويعيشون بتكريم وتبجيل من لدن أشباههم الرافضة!_  ثم يدخل جزيرة العرب من شمالها بين العراق والشام، ويفتن الناس، ويطأ كل قرية ومدينة إلا مكة والمدينة، ثم ينزل المسيح ابن مريم عليه السلام من السماء بين ملكين على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقود المسلمين لقتال يهود، ويذهبون للقدس ويتحصنون بها، ويحاصرهم اليهود بقيادة ملكهم الدجال، فيأمر المسيح ابن مريم بفتح الأبواب، فإذا رآه الدجال هرب وانماع كالملح في الماء لكن المسيح عليه السلام يدركه عند قرية (باب لد) في فلسطين فيقتله بحربته ويري المسلمين دمه، ثم تكون القتلة في اليهود، ويعمّ الإسلام الأرض بقيادة المسيح ابن مريم عليه السلام فيحكم بالقرآن ويبطل سائر الأديان. وانظر: عقيدة اليهود في الوعد بفلسطين، محمد آل عمر، الباب الثالث، وملاحم آخر الزمان، د. ياسر الأحمدي.

    أما نظرة الكاثوليك والأرثوذكس لهذه الملاحم فإنهم يحيلون ملاحم العهد القديم على الماضي ويجعلون عودة المسيح للحساب لا للقتال، أما غالب البروتستانت فمع اليهود الفرّيسيين, فيرون أنها ستكون في المستقبل وهم في غاية الأهبة والترقب لها منذ عقود! ولم يعلموا أن ملكهم هو الدجال عينُه الذي سيكون مقتله بيد مسيح الهدى البن مريم عليه التسليم. والصواب أن ما صح منها فبعضه قد وقع وبعضه سيقع في آخر الزمان لكن ليس على تفسيراتهم وتـخرصاتهم.

    والحمد لله الذي لم يتخذ ولداً, ولم يكن له شريك في الملك, ولم يكن له ولي من الذل, والله أكبر كبيراً.  

إبراهيم الدميجي

http://aldumaiji.blogspot.com/


2/ 5/ 1434